الفضل الرباني في الخلق الإنساني



المقال بتاريخ نوفمبر 2018


الحمد لله الذي خلق الإنسان فسواه وعدله، وفي سابق علمه أعلى شأنه وكرمه، فقال سبحانه وتعالى "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا"، والصلاة والسلام على الإنسان الكامل الحاوي لسر التشريف والتفضيل، سيدنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم.


يقول سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم:"من عرف نفسه عرف ربه"، فجعل معرفة الرب والتي هي الغاية والمقصود من خلق هذا النوع الكريم فرع عن معرفة الإنسان بنفسه. والمعرفة بالنفس تتضمن المعرفة بالأصل، فلا تقتصر المعرفة بالنفس على معرفتك بذاتك أنت فقط، ولكنها تمتد لمعرفتك بأصل نوعك ومنشأه، وحقيقة خلقه ومبدأه، وتفاصيل هذا النوع في ظاهره وباطنه.


وجعل الله سبحانه وتعالى المعرفة بالنفس سبب في المعرفة سبحانه وتعالى، لأن آيات الله تدل على الله وتعرف بالله، كما تدل كل صنعة على صانعها. وأعظم الآيات هي هذا الإنسان المكرم، الذي قال عنه سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم:"الإنسان بنيان الرب"، وقال عنه ربنا عز وجل:" سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ".


والإنسان أعظم الآيات لأن فيه سر الكائنات، فالإنسان الكامل مجموع العالم كما يقول العارفون. ومعنى هذا أن الإنسان هو نسخة للكون بكل ما فيه من التفاصيل العظيمة والدقيقة، وكأن الكون هو مرآة الإنسان على التفصيل التي يشاهد فيها الإنسان نفسه. ولما كان الإنسان هو الحاوي للسر الذي يدرك به ما لا يدركه غيره، ظهر أن الكون وجد لأجل أن يرى الإنسان فيه نفسه وليس العكس، لأن المدرك إنما هو الإنسان. وهذا يعني أن الكون مسخر لهذا الناظر المتأمل، والمسخر له قطعًا أعلى مقامًا من المسخر، وهذا يجعل الإنسان أشرف الكائنات وأعظم الآيات.


والمناسبة التي جعلها الحق بين النظر في الآفاق والنظر للنفس هي لأن الإنسان يعرف نفسه بالنظر في المرآة أولًا، وفيها يرى نفسه ويعرفها، فبدأ الحق بالنظر في الآفاق أي في الأكوان ثم ثنى بنتيجة هذا النظر وهو معرفة النفس من آثار النظر في الخلق.


وتوج الله سبحانه وتعالى هذا التكريم والتعظيم لهذا النوع لما خاطبه بكتبه على ألسنة أنبيائه، والمخاطب مقصود. فالنظر الإلهي في الكون إنما هو لهذا النوع الذي خاطبه وكلفه وأمره ونهيه وعلمه ما يكن يعلم، ليعرف الإنسان أن ربه يريده ويطلبه، وما خلق ما خلق إلا ليدله عليه ويوصله إليه.


وهنا يظهر سر الإنسان الكامل، الذي هو رأس النوع الإنساني في الزمان، فإن كان الإنسان هو المقصود من الخلق فالإنسان الكامل هو المقصود من الإنسان. والإنسان الكامل هو ذلك العبد المتحقق بكمال العبودية لله سبحانه وتعالى، فيتحقق به المقصد الأسنى من خلق هذا النوع المعبر عنه بقول الله سبحانه و تعالي:" وَمَا خَلَقْتُ الْجنَّ والإنْسَ إلاَّ لِيَعْبُدُوْنِ".


فإن كنا في زمان يفكك الإنسان ويدمر هويته ويعكس فطرته فلا بد علينا أن نعيد التعرف على ذواتنا ودورها في المملكة الكونية، لأن الله لم يخلق مخلوقًا عبثًا بل كل يدور في فلك المراد الرباني، ولكن الإشكال يحصل عندما يتوه الإنسان عن مراد الله فيه فتتنازعه الأهواء وتتملكه الأهواء وتلبس عليه الشياطين، فيخرج عن دوره ويتدنى في طوره فيعود كالأنعام بل أضل كما أخبر الحق جل علا. وسبب كونه أضل من الأنعام أن الأنعام لم تجهل كونها أنعامًا والإنسان الضال جهل كونه إنسانًا، فهي أهدى منه بنفسها فتحافظ على دورها في الخلق دون إفراط ولا تفريط.


فلنعد سويًا لميدان التعرف على النفس وأصلها، ودورها ومراد الله منها، لكي نعمل علي بناء الإنسان قبل أن ينجح من يعمل على هدمه، متمسكين بالوحي الشريف وأهله من مرتبة الإنسان الكامل، المتمثلة في الأنبياء والمرسلين ومن والاهم من الأولياء والعارفين، على رأسهم سيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وآله وسلم معدن الكمال وسيد الرجال.


شارك المحتوي