المقال بتاريخ سبتمبر 2014
كان من دأب الشيخ رحمه الله وقدس سره في أمر الطريق العمل الجاد على تصحيح مسار التصوف والتواصل مع جميع الأحباب الصادقين من مختلف مشارب أهل الله للعمل على إذابة الفروق بين المشارب، وخلق رؤية موحدة عن تغيير أحوال الطرق الصوفية للأفضل، وكيفية إيجاد خطاب دعوي صوفي يليق بالزمان والأحوال التي تمر بها الأمة. ولكنه كان يرى أن هذه خطوات ستأتي مستقبًلا وليس حاليًا، أما المهم حاليًا هو نقد الذات ومخاطبة المشاكل الحقيقية التي تواجه الهياكل الصوفية والفرد الصوفي، وهذا يأتي قبل الدعوة إلى المشرب، حتى إذا دعونا الخلق لمشرب أهل الله تكون دعوة مبنية على تحقق لا على إدعاء، وعلى علم لا على جهل. ولهذا أذكر جيدًا كلمة قالها مرة في اجتماع لبعض المحبين، قال فيه أن واجب الوقت هو بناء الفرد الصوفي علي أساس من العلم والسلوك، وهذه هي الخطوة الأولي.
وخطوة نقد الذات هي أهم خطوة في عملية التصحيح والبناء لأنها تضع صاحبها على أول طريق العلم بالمشاكل والعيوب التي يحتاج أن يعمل عليها، وبدونها يظل طالب الإصلاح دائرًا في أعراض المرض وليس أسبابه، فيعالج العرض لا يعالج المرض. ولهذا في هذه المقالة القصيرة نتعرض لبعض نقاط نقد الذات الواجبة للحراك الصوفي الحالي، بما سمعناه من الشيخ عن هذا الشأن، وبما شاهدناه ورأيناه بأنفسنا مخالفًا لأسس الطريق التي حددها مشايخه على مر الزمان.
فإن أحببنا أن نبدأ بدأنا بأمر العلم الشرعي الضروري، الذي أصبح في تعداد الجائز بدلًا من الواجب عند الكثير من المنتسبين للطريق. بحيث يستغنى المنتسب بنسبته عن حاجته للمعرفة بقواعد العقائد والعبادات، فيقيم الواجب مقام المندوب، ويفضل في ذهنه المفضول الفاضل، بل وقد تجده جاهلًا بأحكام الطهارة والصلاة، فتجده قاضيًا عمره بلا وضوء ولا صلاة يقرها الشرع. وهذا من الأمراض المتفشية بين المنتسبين بل والمشايخ، خاصة في طرق التبرك، التي ليس للشيخ فيها رتبة.
وطالما طالب الشيخ ساداتنا العلماء العاملين بالعمل علي مصنف مبسط للضروري من العقيدة والفقه، يسع المسلم البسيط قرائته ومعرفته، ليكون منهجًا لجميع منتسبي الطرق على حسب الاستطاعة، بحيث لا يكون هناك مريدًا واجدًا جاهًلا بما لا يسع المسلم جهله، حافظًا بذلك الخرقة مما نسب إليها زورًا بأن أهلها أهل بطالة لا عمالة.
انطلاقًا من هذه النقطة نجد النقطة التالية في عملية نقد الذات، وهي انتشار البطالة بمعناها اللفظي والاصطلاحي بين أبناء الطرق، فبمعناها اللفظي أي أنهم لا عمل لهم ولا سلوك في طريق الحق، اعتمدوا على النسبة واكتفوا بها، وهذا من أعظم القواطع، حتى أن شيخ الطريق سيدي إبراهيم الدسوقي قال عن هؤلاء:"الله خصم كل من شهر نفسه بطريقتنا ولم يعمل بعملها واستهزأ بنا". وأما بمعناها الاصطلاحي أي أنهم لا حرفة لهم ولا وظيفة، فيكونوا عالة على من حولهم من الناس وعلى المجتمع، متخذين الطريق كعلة للبطالة بدعوى التسليم وترك التعلق بالدنيا، وهذا من أعظم ما يؤخذ على الطريق في زماننا.
وإن أردنا أن نبحث أكثر في هذه النقطة وجدنا أن هناك الكثير ممن ينتسب للطريق ليكون له ملاذًا عن متاعب ومشاكل الحياة، بحيث توفر هذه البيئة الروحانية المناخ المناسب له، ليبدأ في خلق منظومة فكرية متكاملة مبنية على الغيب لا على الشهادة، يستطيع بها أن يصدق ما يريد أن يصدق ويكذب ما يريد أن يكذب حتى لا يحتاج إلى أن يواجه أي شيء يسبب له الضيق من متاعب الحياة. فإن واجهته بشيء مما يكره وجدته قد انطلق مبررًا حاكيًا عن أمور حدثت في غيب الغيب لم يراها ولم تراها أنت، فإن حاججته فيها اتهمك بعدم التسليم وضعف اليقين، فخرج من هذا النقاش دون الحاجة أن يواجه نفسه بما أخطأ فيه أو ما يحتاج العمل عليه.
أما المشكلة الجامعة للكثير من مشاكل الطرق في زماننا هي عدم تحرير مصطلح: الطريق والطريقة والمريد والشيخ. لما غابت المعاني الحقيقية لهذه المصطلحات بين الناس اختلط الحابل بالنابل، فظن المنتسب أن نسبته تكفيه ليسمى مريدًا، وظن المتصدر أن تصدره يكفي ليكون شيخًا، وظنت جماعة الطريقة أن الطريقة هي الطريق، مما أدى لأكبر ما نواجهه من المشاكل وهي مشكلة التعصب. والمقصود بمشكلة التعصب هو الاعتقاد الفاسد أن جماعة الطريقة الواحدة خير من جماعات الطريق الأخر، وأن الشيخ فلان أفضل من الشيخ فلان، وأنك إن حضرت لشيخ من طريقة ثانية أو تتلمذت له فأنت بذلك من الخارجين عن الطريق المستقيم، وكأن الطريقة لم تصبح الطريق كله فقط بل وأصبحت الإسلام، وهذا من تعصب الجاهلية الأعمى الذي يجعل الطريقة مثلها كمثل الجماعات العنصرية التي تفضل البعض علي البعض بمجرد النسبة لعرق أو لون.
ولكي تحل هذه المشاكل يجب أن يظهر جيل جديد من أبناء الطرق قادرين على التمسك بأصول الطريق كما حررها أهل الله، متسلحين بالعلم الشرعي العاصم لصاحبه من الزلل بتوفيق الله، شاربين من معين محبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يعملون على تصحيح مسار الطريق بجد واجتهاد، نسأل الله أن يجعلنا منهم ومعهم، وللحديث بقية بإذن الله.
شارك المحتوي