المقال بتاريخ أكتوبر 2012
قال الله تعالى في كتابه الكريم: "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ"، ثم خلق الله تعالى سيدنا آدم وعلمه الأسماء كلها، ثم أقام على الملائكة الحجة في استخلافه له، بأنه يحمل وحده من العلم ما لا يحملوه كلهم، "قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ ۖ فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ". فكان سيدنا آدم هو رمز لخلافة الله في أرضه وتتابع بعده هؤلاء الخلفاء أعلاهم الأنبياء والمرسلين، ثم الصديقين والشهداء والصالحين وغيرهم كل على قدره، فكل من حمل الأمانة التي كلف الله بها بني آدم على الوجه الذي يرضي الله، كان له استخلافًا من استخلاف سيدنا آدم.
فالأنبياء هم التجلي الأكبر والأعظم لاستخلاف الله في أرضه، ولهذا لما أبرزهم الله من العدم إلى الوجود كانوا على وصف خَلقي وخُلقي يليق بما خلقهم الله له. ولكن الله سبحانه وتعالى لم يرد أن يقف الأمر هنا، ولكنه جعل لمن دون الأنبياء استخلافًا، وهو للأولياء والصالحين حتى لا تكون عصمة الأنبياء حجة على ترك الاقتداء بهم. فأبرز الله على مر الزمان رجالًا ليسوا بالأنبياء ولا المرسلين يقوموا في مقام النيابة عنهم، "مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا".
ولنفهم أكثر ما ما هي خصوصية هؤلاء الأشخاص في أممهم، نذكر أجزاء من قصة العبد الصالح المذكورة في سورة الكهف. يقول الله تعالى: "فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا". فكانت أول علامة لهذا العبد الصالح أنه من أهل الرحمة، وهذه من أهم إشارات الاستخلاف، لأن الخليفة الأكبر صلى الله عليه وآله وسلم بُعث رحمة للعالمين، فكل من يندرج تحت لوائه يجب أن يكون من أهل الرحمة، والإشارة الأخرى أنه لديه علم غير العلم المشهور في زمانه، بل هو علم مخصوص ينسبه الله إلى نفسه وهو ما يشار إليه "بالعلم اللدني". ثم في موضع أخر يقول "وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا". وهنا إشارة عجيبة ولو لم تكن موجودة في القرآن لأنكرها الناس، وهي قوله "فَأَرَادَ رَبُّكَ" كيف علم العبد الصالح أن هذا مراد الله؟ ولو نعته الله بالعبد الصالح فيستحيل عليه أن يتكلم على الله بما لا يعلم أو حتى بما يشك فيه. فهو حينما يقول "فَأَرَادَ رَبُّكَ" فهو يعلم يقينًا أن هذا مراد الله سبحانه وتعالى. ويقول أيضًا: "وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي"، إذن عن أمر من فعله؟ وكيف له أن يكون له هذه العلاقة بالله سبحانه وتعالى وهو ليس من الأنبياء؟
والحقيقة أن سر عطاء الأولياء والصالحين هو سر عظيم لا يخطر علي بال بشر، فهذه القصة هي واحدة من قصص عديدة منسوبة للصالحين في القرآن.
فاستعجب مِن من ينكر علي الأولياء وقوع الكرامة وخرق العادة، لأن مقارنة بعطاء الله لهم هذا من صغائر الأمور ويكفى من هذا قوله :"إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ". فما بالكم بأناس خصص الله لهم ملائكة دائمة التنزل عليهم تبشرهم بالولاية في الدنيا والآخرة.
وإن سر الاستخلاف باقي في الأرض دائمًا لأن الله سبحانه وتعالى أتى باسم الفاعل في: "جاعل في الأرض" واسم الفاعل يُؤتى به للاستمرارية. أي أن سر الخلافة باقي في الأرض علي الدوام، ولهذا يبقى وجود هؤلاء العباد الصالحين في كل بقاع الأرض في كل زمان، "ثُلَّةٌ مِنْ الأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنْ الآخِرِينَ". ولو ذهبوا في أي زمان لذهب وعد الله بالاستخلاف في الأرض وهذا يستحيل على الله.
وإذا علمنا أن فضل الله واسع، وأنه لا خصوصية بشرية كخصوصية الأنبياء في الأولياء، فيجب علينا أن نطلب من الله أن نكون منهم، فإن لم نستطيع أن نكون منهم فلنكن معهم. وباب الوصول لما كانوا عليه هو سيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، لأنه التجلي الأكبر لهذا المعنى في الوجود وكل من سواه، فيندرج تحت لوائه، ولأنه سبب المحبوبية من الله لنا "قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ". فكل من أحب سيدنا محمد أكثر عرف عنه أكثر، وكل من عرف عنه أكثر ورث عنه أكثر، وكل من ورث عنه أكثر كان له نصيبًا أكبر في ولاية الله له، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:"العلماء ورثة الأنبياء"، وقال أيضًا: "أنا مدينة العلم وعلي بابها".
فعلينا بالفناء في محبة النبي صلى الله عليه وآله حتى تسطع أنواره في قلوبنا، فنكون من ورثته قولًا وفعلًا وحالًا، ومن حاز مثقال حبة من خردل من نور النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقد حاز الدنيا وما فيها، وكما يقول سيدي الإمام البوصيري في بردته:
"وكلهم من رسول الله ملتمس *** غرفًا من البحر أو رشفًا من الديم".
شارك المحتوي