المقال بتاريخ يوليو 2012
ترددت على أذاننا كثيرًا قصص محبة السادة الصحابة لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ومعاملتهم له وأدبهم في حضرته. ولكن قلما كنا ننظر لهذه الروايات نظرة تفتح لنا باب الفهم في أهمية التعلق الحقيقي بالحبيب صلى الله عليه وآله وسلم. حتى إذا رأينا في زماننا هذا من هم متعلقين بحضرته، فانين في جماله، باكيين على فراقه استغربنا وظننا أنها من المبالغة أو أنها ليست من صحيح الدين. ولكن الحق أن حال الصالحين من هذه الأمة على مر العصور بدايةً من الصحابة والتابعين حتى زماننا هذا كان بينهم عامل أساسي مشترك، وهو المحبة الكاملة والشوق المطلق لسيدنا رسول الله صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله.
فسيدنا حسان بن ثابت هو المثال الحقيقي للحب من أول نظرة. سيدنا حسان صحابي جليل، وكان شاعرًا بارعًا، قبل إسلامه دفع له بعض المشركين المال وطلبوا منه أن يذهب لأعلى الجبل حتى إذا مر رسول الله هجاه (أي قال شعرًا في سبه). فذهب سيدنا حسان وانتظر الحبيب يمر، حتى إذا رآه تسمر في مكانه ولم يقدر على الكلام. فلما نزل من الجبل أعطى القوم مالهم وقال لهم ما كنت لأهجوه وأنشد قائًلا:
"لما رأيت أنواره سطعت *** وضعت من خيفتي كفي على بصري
خوفًا على بصري من حسن طلعته *** فما أبصره إلا على قدري
روح من النور في جسم من القمر *** كحلية نسجت من الأنجم الزهر"
وقال لهم أشهد أنه رسول الله وأشهر إسلامه، فكانت رؤيته فقط سببًا في ترك الدنيا بمالها وأهلها. وفي موضع آخر يدخل النبي على الصحابة في المسجد فيقوموا له فيأمرهم أن يجلسوا ولا يقوموا له بعد ذلك. فيدخل عليهم مرة بعدها فيجلس الكل إلا سيدنا حسان يقف لسيدنا الرسول، فيسأله الحبيب ما منعك أن تجلس كما أمرتك؟ فينشد سيدنا حسان قائلًا:
"قيامي للعزيز علي فرض *** تارك الفرض ما هو مستقيم
عجبت لمن له عقل وفهم *** يرى هذا الجمال ولا يقوم"
ويسأل سيدنا الرسول سيدنا أبا بكر مرة ماذا تحب من دنياك يا أبا بكر؟ فيرد عليه أحب من دنياي لأجلك ثلاث: "نظري إليك وجلوسي بين يديك وإنفاق مالي عليك". لم يقل أحب أهلي ولا مالي ولا صلاتي أو صيامي ولا آخرتي ولا أي شيء سوى رسول الله. وكان إذا رجع سيدنا أبو بكر إلى حجرته جلس ووضع رأسه بين ركبتيه وأخذ يبكي. فإذا سألته زوجته ما بك قال:" واشوقاه إلى رسول الله". وهو الذي كانت حجرته تفتح على المسجد وبينه وبين النبي خطوات قليلة ويبكي شوقًا على فراقه حتى الصباح.
الغرض من ذكر هذه الروايات هو أن نعلم أن المحبة الكاملة للنبي هي ميراث الصالحين، وأنها دليل الإيمان الحقيقي. والمحبة سر عزيز لا يعطيه الله إلا لمن طلبه بصدق وألقى الدنيا وراء ظهره. فبالمحبة يتطهر القلب من كل ما هو سوى المحبوب وترفع همته عن كل مطلوب. فلا يريد المحب سوى أن يكون مع محبوبه ولا يرى من عمله إلا ما يقربه إليه ولا يطلب إلا وصاله. ولهذا فإن المحبة هي باب الإخلاص بها يترقى العبد في منازل السائرين ومن أجلها يستوحش من جميع المخلوقين.
والمحبين هم قليل من عباد الله الذين اختصهم برحمته وقربهم من حضرته وفتح لهم باب الفهم عنه، فأشهدهم تجليه الأعظم وحبيبه الأكرم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فلما شهدوا هذا الجمال سُلبت قلوبهم منهم وتبدلت أهوائهم فصاروا لا يرون إلا سواه ولا يريدون إلا إياه. عزفت قلوبهم عن الدنيا فتساوى عندهم ذهبها ومدرها. فسكوتهم لله وكلامهم لله وخطواتهم لله وسكناتهم لله وأكلهم لله وشربهم لله وضحكهم لله وحزنهم لله "قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ".
وها هو شهر رمضان الكريم يدخل علينا فلنطلب من الله بصدق أن يمن علينا بعطية المحبة حتى يأخذنا منا إليه ويوفقنا إلى النوايا الصالحة التي نرزق بها توبة تطهر القلوب من كل كدر. محبة تجعلنا نفنى في الحبيب المحبوب شافي العلل ومفرج الكروب حتى يصير هوانا علي هواه ومرادنا هو مراده لنا ونرزق بها صحبته يوم القيامة بسر قول الله:"وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ۚ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا".
شارك المحتوي