المقال بتاريخ مايو 2014
طلب الكثير من الأحباب أن تتم كتابة شيئًا يسيرًا في التعريف بمولانا سيدي محمد أكرم عقيل مظهر. والحقيقة أنه ليس للفقير أن يتكلم عن هذا القطب الرباني الذي رفع الله ذكره بوراثته لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. ولكن ذكر الأحبة يؤنس الأحباب ويُسقي أرواحهم، فشرعنا متوكلين على الله في هذا الأمر وسميت مقالتي "لسان التعريف بحال الولي الشريف" تبركًا بالكتاب الذي كتبه سيدي جلال الدين الكركي في التعريف بسيدي إبراهيم الدسوقي، لأن سيدي محمد أكرم ولد سيدي إبراهيم ووارثه. وتناولت هذه المقالة بما عرفته وشهدته شخصيًا من صحبة الشيخ من عام 2009 – 2013، فهي عن الشيخ كما عرفه الفقير فقط. وأنوي تقسيمها بما رأيته من معاملات له كشيخ للطريقة البرهامية، وكوالد لأربع أولاد، وكتاجر صاحب أعمال حرة ثم أختمها بفوائد استفدتها من الشيخ. وابدأ بسيرته الذاتية كما نقلتها من صفحته الرسمية:
الاسم: محمد أكرم عقيل مظهر- القاهري مولدًا، الشافعي مذهبًا، البرهامي طريقةً والشاذلي مشربًا
(1965 – 2013).
المولد: ولد في اليوم الثاني من شهر مايو عام 1965 ميلادي، ووافق مولد فجر غرة شهر المحرم سنة 1384 هجريًا.
والده هو العارف بالله الشيخ عقيل إسماعيل مظهر بن إسماعيل بك مظهر الأديب والمفكر المعروف، ورغم نشأة الشيخ عقيل مظهر الأرستقراطية وتدرجه في الوظائف الدنيوية إلا أن الله منَّ عليه بإشارة نبوية بسلوك طريق التصوف، وخدمة طريق السيد إبراهيم الدسوقي رضي الله عنه. أما أمه فهي السيدة وفاء بدير (متعها الله بصحتها وطول عمرها)، فهي رفيقة والده في سلوك الطريق وخدمة المريدين. تخرج في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة عام 1986م.
شيوخه: أخذ طريق التصوف عن والده على منهج السيد إبراهيم وتلقى العلوم الشرعية على يد فضيلة الإمام العلامة الشيخ علي جمعة -حفظه الله- فقرأ عليه كتاب الموطأ كاملًا، وأخذ إجازته من فضيلة الشيخ، كما قرأ معه التمهيد للإسنوي وغيره من الكتب. كما تلقى العلم من بعض تلامذة الإمام العلامة مثل الشيخ/ سيد شلتوت، الشيخ/ عمرو الورداني، الشيخ/ أحمد زاهر، الشيخ/ أسامة السيد الأزهري. وقد انتفع الشيخ بمجالسة الكثير من العلماء في الحجاز والشام واليمن.
سيدي محمد أكرم عقيل مظهر وبداية علاقته بالطريق:
بدأ سيدي محمد أكرم عقيل مظهر علاقته بالطريق منذ كان في مهده، فكان يذكر لنا أن سيدي عقيل مظهر والده كان يضعه في حجره وهو رضيع، حين كان يجلس في خلوته ويقرأ لساعات متواصلة. وذكر الشيخ أن هذه كانت بداية تعلقه الروحي بوالده وشيخه سيدي عقيل مظهر. ثم تربى الشيخ في هذا البيت الشريف الذي يجمع سيدي عقيل مظهر شيخ الطريقة البرهامية وزوجته سيدتنا أم أيمن، وكان الشيخ دائمًا ما يقول أن سيدي عقيل قد باع نفسه لله وللطريق، كان يُسخر نفسه وماله وأهل بيته لخدمة هذا الطريق، وشرب سيدي محمد أكرم من هذا المعين الصافي المبني على المحبة الخالصة لله ولرسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وآل بيته والصالحين.
ثم لزم سيدي محمد أكرم عقيل مظهر والده سيدي عقيل ملازمة تامة من سن 22 عامًا، كان في صحبة الشيخ فيها يوميًا من 10 صباحًا حتى الـ 10 مساءً كما كان يذكر لنا. وعندما سألت الشيخ مرة عن بداية حاله في الطريق، كان يقول لي أن أول حاله كان الجذب، وأنه كان ملازم للذكر على الدوام حتى أنه كان يتكلم مع أهل بيته بالإشارة من شدة انهماكه في الذكر. وينبغي الذكر أن حال أكابر الأولياء دائمًا يكون كذلك، جذب يليه سلوك.
لزم سيدي محمد أكرم والده في الطريق، وكان يتعامل مع أبناء الطريقة كواحد منهم دون أي معاملة خاصة لكونه ولد الشيخ وابنه، وكان همه في فترة لزومه لسيدي عقيل هو السلوك إلى الله ومعرفته، لا لمشيخة ولا لغرض دنيوي. وحينما سألته إذا خطر في باله أنه سيكون الشيخ بعد سيدي عقيل قال لي أن هذا لم يخطر بباله قط، وكان أبعد شيء عن تصوره.
انتقال سيدي عقيل مظهر للرفيق الأعلى:
استكمل سيدي أكرم سلوكه للطريق في صحبة والده حتى كان ما كان من انتقال سيدي عقيل مظهر للرفيق الأعلى في يوم 12 أكتوبر 1993، في الليلة الختامية لمولد سيدنا ومولانا الإمام الحسين، بعد الإنتهاء من حضرة الذكر مباشرة. ومما يُذكر هنا أن سيدي عقيل مظهر سلك طريق سيدي إبراهيم الدسوقي لمدة 25 عامًا بالتمام والكمال، بدأت في الليلة الختامية من مولد مولانا الإمام الحسين عام 1967 وانتهت في الليلة الختامية من مولد سيدنا ومولانا الإمام الحسين عام 1993. وكان في ليلة انتقال سيدي عقيل أحوالًا عجيبة له يستحب ذكرها إثباتًا لكرامته عند الله وتثبيتًا لقلوب المحبين.
كان سيدي عقيل يومئذ ابن 65 عامًا، فلم يكن صغيرًا في السن، ولكنه في هذه الليلة كانت همته كالشباب الصغار، وقف في حضرة الذكر ساعات متواصلة على خلاف عادته، وكلما جلس أحد الأحباب تعبًا أقامه الشيخ وقال: "ماحدش يقعد يا أولاد، لما شيخكم يموت تبقوا تقعدوا". وفي موضع أخر في هذه الليلة جاءه الإذن بالتصريح فقال للأحباب اجتهدوا في الذكر فإن رسول الله حاضر معنا ومعه 40 ولي آخر.
واستكمل الشيخ الحضرة حتى قربت الساعة من الـ 12 تقريبًا، هنالك أوقف الشيخ الحضرة ونظر في الساعة ثم قال: "مافيش وقت"، فخرج مُسرعًا على خلاف عادته من الخدمة، وأعطى كل المقتنيات التي كانت معه لأمنا السيدة أم أيمن، ثم ذهب لغرفته في فندق كان يبيت فيه أيام المولد ومعه إثنان من الأحباب. حتى إذا دخل غرفته ذهب ليغتسل ويتوضأ، ثم استلقى على سريره وطلب من أحدهم شربة ماء، فشرب شربة صغيرة ثم قال لهم: "شكل شيخكم اتحسد يا أولاد"، ثم نفخ نفخة واحدة خرجت فيها روحه الطيبة العطرة الشريفة.
تلقى الجميع الخبر الفاجع بحزن شديد، وكانت كما يقول الشيخ لنا أصعب مصيبة هي انتقال الشيخ المربي، ولكن الأصعب منها أن ينتقل شيخك وتكون أنت الشيخ بعده.
سيدي محمد أكرم عقيل مظهر شيخًا للطريقة البرهامية:
انتقل سيدي عقيل مظهر ودفن في مقر خلوته ببلدة برقين في محافظة الدقهلية. وجاء الأحباب من كل حدب وصوب لحضور عزاء الشيخ. ويحكي لنا الشيخ أكرم رحمه الله أنه في هذا العزاء وجد أحد الأحباب يضحك ومبتسمًا طوال مدة العزاء، فسأله كيف حاله هكذا فقال له: "هؤلاء لا يصح البكاء عليهم بل يجب الفرح بهم". ومضت ساعات العزاء ثم وجد الشيخ أكرم أن أحباب الشيخ عقيل قد تجمعوا ليلقوا كلمة، قالوا فيها أن هذا الطريق يجب أن يستمر ولا يقف وأن من سيكمل هذه المسيرة بعد سيدي عقيل هو سيدي الشيخ أكرم وطلبوا من الأحباب أن يبايعوه في العزاء. لحظة لا يتخيلها الشيخ ولم يكن مستعدًا لها أبدًا، ظل الأحباب يتجمعوا عليه ليبايعوه فردًا فردًا، وهو في ذهول قد شله عن الحركة ،ومنعه عن الكلام حتى انقضى هذا اليوم وقد وجد نفسه في ركاب أبيه خليفة له في هذا المقيم العظيم.
ذهب الشيخ بعدها لأحد أحباب الشيخ عقيل وأمناء سره، وقال له أنه أولى بهذا الأمر منه لطول صحبته للشيخ وقربه منه، فرفض وقال أن هذا الأمر أجمع عليه جميع الأحباب بما فيهم هو وأنه أمر مقضي بإذن الله، والله يعينه عليه.
مرت هذه الأيام العصيبة وما مر أقل من أسبوع حتى وجد الشيخ أكرم نفسه جالسًا مكان أبيه في رجبية سيدي أحمد البدوي بطنطا، وكان إذا ذكر الشيخ لنا هذه القصة ضحك وقال "كنت أشعر أن فأرًا يجلس مكان جبل". ولكن الله سبحانه وتعالى أعانه ووففقه، وأظهر له شواهد العناية والإختصاص بأنه قد طلبه لهذا الأمر وأراده له، ولكن الشيخ كان يتردد بعض الشيء لأنه يعلم حجم المسؤولية ويريد أن يتأكد أنه مأذون له من رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يكون في هذا المقام.
وبعدها بفترة قدر الله سبحانه وتعالى للشيخ أن يذهب لزيارة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقال للأحباب وقتئذ أنا ذاهب لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، لأستأذنه في هذا الأمر فإن أذن لي كان بها، وإن ردني فهذا أمر ليس لي ولن أستطيع القيام به. وفعلًا ذهب ووقف أمام المواجهة الشريفة وقال بيتين من الشعر قالهما قبله سيدي القطب أحمد الرفاعي وهما:
"في حالة البعد روحي كنت أرسلها *** تقبل الأرض عني وهي نائبتي
وهذه دولة الأشباح قد حضرت *** فامدد يمينك كي تحظى بها شفتي"
وفي هذه الليلة رأى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد كان نائمًا مستلقيًا وقدمه الشريفة ظاهرة، فمال عليها الشيخ وقبلها، فوجد وجه الحبيب قد ظهر وتبسم له. وأخذ الشيخ هذه الرؤيا الصادقة إذنًا له فيما أقامه الله فيه وعلم أنه مأذون من الله ورسوله للدلالة على الله وعلى منهج أهل الله.
والحقيقة أن الفقير لم يعاشر الشيخ إلا في أواخر حياته ولم أكن معايشًا لأحواله في هذه الفترة وما كان يمر به، وهو لم يكن يتكلم عن هذه الفترة كثيرًا. ولكن ما كان يذكره الأحباب أنه مرت أعوام والمجلس لا يُقرأ فيه إلا سورة يس وبعض التسابيح ويُقضي، ولا يتقدم الشيخ للكلام والإرشاد إلا نادرًا إذا حدث. وظل الأمر كذلك حتى وجد الشيخ أنه بحاجة حقيقية لطلب العلم الشرعي المُسند، والذي به يستكمل أركان الشيخ المربي الكامل، الذي من شروطه أن يكون عنده علم شرعي مسند أقله العلم الضروري، وسلك الطريق على يد شيخ كامل عالم بفروعه وأصوله وعوائقه وأحواله، ومأذون له بالدلالة على الله من شيخه ومن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وفعًلا ذهب الشيخ للأزهر الشريف، ومكث في رواق الأتراك بضع سنين، ينهل العلم الشرعي من مدرسة سيدي الإمام العلامة علي جمعة، فتلقى منه ومن تلامذته كسيدي عمرو الورداني وسيدي سيد شلتوت وسيدي أحمد الهجين وسيدي الشهيد عماد الدين عفت. وكانت للشيخ صلة قوية ووثيقة بمدرسة آل باعلوي الحضارمة عن طريق سيدي العلامة الحبيب عمر بن حفيظ وسيدي الحبيب علي الجفري.
ويقول الشيخ عن هذه الفترة أنه كان يذهب لهذه الدروس بعمامته وهيئته متعمدًا كي يراه مريديه جالسًا تحت أقدام العلماء ليتعلم منهم، قاصدًا بذلك أن تبعث همة طلب العلم في مريديه، فيتحركوا له ويفعلوا كما فعل شيخهم. وكان كثيرًا ما يذكر ما استفادته من مجالسة هؤلاء العلماء في مجالس الطريقة حتى يقوى هذا الباعث في المريدين أيضًا.
والحقيقة أن الفقير لما جمعه الله بالشيخ كان قد استكمل هذا المطلب، ولكنه كان ما زال دؤوبًا على العلم حريصًا عليه، يستغل أي وقت فراغ ليستزيد منه. ولكن الهم الحقيقي للشيخ كان في أمران استحوذوا على كل عقله وقلبه، وهما: إرشاد المريدين من أهل الطريقة والدعوة إلى الله عامة على مشرب أهل الله.
كان الشيخ يعامل كل مريد على حدى، يبني معه علاقة شخصية خاصة ويهتم به اهتمامًا عظيمًا، حتى يظن هذا المريد أنه أهم شخص في قلب الشيخ. وكان الشيخ يأخذ أمر المريدين باهتمام بالغ، يسعى في أمورهم دين ودنيا، ويبذل لهم قبل أن يبذلوا له، ويجبر كسر قلوبهم، وينصحهم لله بلا غرض ولا علة، ويسأل عن أحوالهم أحوال ذويهم يربط قلبه بهم علي قدر ربط قلوبهم بالطريق.
وكان من شدة إخلاص الشيخ في قيامه بمهمته مع المريدين، دائمًا ما يذكر بأن الشيخ وسيلة وليس غاية، وكلما رأى أحد الأحباب تعلق بذاته تعلقًا قد يعوقه في الطريق ربما صد هذا الشخص عامدًا، يقصد بذلك رده للمطلوب الأسنى والمقصود الأوحد وهو الله. وهذا إخلاص لا يظهر إلا من أهل التمكين الحقيقي، الذين أقام الله لهم فرقانًا بينًا يعطون كل شيء قدره ولا يتصرفون إلا بالله ولله.
ومن جملة هذا الإخلاص أن مع كل ما كان يفتح الله به على قلب الشيخ من المكاشفات والحقائق لم يكن يتكلم في مجلسه إلا في أمر السلوك، فلم نجد منه شطحًا قط، ولم نجده يقول "أنا" في مجلسه أبدًا. فهداية المريدين كان همه الحقيقي، ودلالتهم على الله كانت مهمته لا تشويش فيها ولا اضطراب، إذا تكلم دل على الله وإذا سكت أنهض حاله إليه.
أما الهم الثاني لدى الشيخ كان الدعوة إلى الله على مشرب أهل الله، وتصحيح مسار التصوف، وهذا ميراثه من والده سيدي عقيل مظهر، الذي كانت مهمته بناء مدرسة سنية صوفية حقيقية تصحح مسار التصوف بعدما انحرف به من انحرف. وكان الشيخ يجهد نفسه في السفر الدائم للقرى والنجوع والمحافظات للدروس الليالي التي يتكلم فيها عن حب سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعن الطريق إلى الله. وكان الشيخ لا يفرق أبدًا بين مشرب ومشرب وطريقة وطريقة، وكانت هذه العصبية ممحوة من قاموسه، كان يحب الجميع ويرجو الله للجميع دون تفريق بهوى بين هذا وذاك.
الشيخ أكرم كوالد لأربعة أبناء:
ظهر سر ما أعطاه الله لسيدي أكرم من الوراثة المحمدية في بيته ومع أبنائه كما ظهر مع المريدين في الطريق. فكان دومًا ما يقول: "لقد ربيت أبنائي بالحب وبالحب فقط، كما رباني أبي، والحمد لله رأيت أثر هذه التربية فيهم". وكان يذكر لي علي وعقيل ومريم أن الشيخ قلما كان يُعاتبهم على أمر فعلوه أو لم يفعلوه، وكان يعاملهم معاملة الإنسان العاقل القادر على اتخاذ القرار، لم يكن يصغرهم أمام أصدقائهم أو يعاملهم كأطفال لا يفهمون ولا يعلمون، كما يفعل الكثير من الآباء في زماننا. وهذه المعاملة المخلوطة بالحب والرحمة أورثتهم عزة نفس وثقة غابت عن الكثير ممن كانوا في سنهم ومن أقرانهم، حتى ظهروا كما نراهم الآن، أقمار منيرة وفروع طاهرة من أصل طاهر، ورثوا أباهم كما لم يرثه غيرهم، وليس بسبب النسبة، ولكن بطول المعاشرة والصحبة.
وكنت عندما أرى الشيخ في بيته يذكرني بحال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بيته، يعمل بعمل أهل بيته ويقضي حاجاتهم ويسعى في أمورهم خادم لا مخدوم. وما هذا إلا من جملة ما ورثه من سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الأحوال السنية، فكان يكفي أن تراه مرة في بيته لتعلم أن هذا الرجل من أهل الحال لا المقال، ومن أهل الوراثة الحقيقية لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
الشيخ أكرم كصاحب أعمال حرة:
الحقيقة أن الشيخ قد كان سخر نفسه بالكلية للطريق والدعوة إلى الله، حتى أن عمله الذي يتكسب منه كان وسيلة لخدمة الطريق والقرب من الله سبحانه وتعالى. وكان يقول لي أنه يرجو من الله أن يفتح عليه في عمله ليتمكن من خدمة الطريق بشكل أفضل والإنفاق عليه بما يلائم متطلبات الطريق. وكان الشيخ في معاملته مع الخلق في التجارة صادقًا أمينًا لا يحب أن يضع غيره في مأزق في التجارة، وكان يقول: "كنت أسمع دائمًا لازم تعصر اللي قدامك، مش فاهم تعصره ليه؟ ما نكسب إحنا الإتنين وتبقى حاجة جميلة؟". وفعلًا كان هذا مذهب الشيخ، يسعى في رزقه لتيسير أحوال الناس وقضاء حوائجهم قبل أن يكون سعيه للتكسب والإنفاق على أهله وعلى الطريق. وبهذا كان سعيه على الرزق والعمل بابًا من أعظم أبواب قربه إلى الله لا مجرد ساعات قليلة يمضيها هنا أو هناك ليتكسب منها.
ومما ينبغي ذكره أيضًا هو هدوء بال الشيخ وعدم تعكير صفوه بسبب ما يحدث في العمل، كما يحدث لنا جميعًا. لم يكن يأخذ هذه الأمور بقلق وحرص كما نفعل نحن، ولكن كان يأخذها بصبر وطول بال وتوكل على الله سبحانه وتعالى، بحيث لم يكن يعكر صفوه ما يلاقيه في العمل من المشاكل في معاملته للآخرين ولا أخطائهم في العمل.
فوائد استفدناها من الشيخ:
إن شئنا أن نذكر ما استفدناه من الشيخ احتجنا لقلم لا يجف ومداد لا ينفذ، لأن كل لحظة مضت في صحبة الشيخ كانت لحظة استفادة. ولكن إن أردنا أن نلخصها أخذنا بعض الملامح التي أثرت في الفقير أعظم تأثير.
المحبة الخالصة:
رأينا في الشيخ محبة لا يستطيع أن يتحمل قدرها عقل ولا قلب، كانت محبة الشيخ للخلق جميعًا، وبجميعًا أقصد الإنسان المسلم والكافر والصديق والعدو والعربي والأجنبي والنباتات والحيوانات بل والجماد أيضًا. محبة تأخذ بزمام أمره حتى لا يستطيع البغض ولا الشقاق، لم أرى في عين الشيخ نظرة بُغض على أحد من خلق الله أبدًا، لم يكن قلبه يسع إلا الحب، وهذا كان مذهبه في جميع أموره، أن المحبة دائمًا أولى.
الإخلاص:
عندما وجد الشيخ نفسه في مقام أبيه وتأكد له أنه مراد الله منه، باع نفسه لله حقيقة لا رسمًا، فسخر نفسه وما يملك في خدمة هذا الطريق وخدمة الأحباب. ولم يرى الشيخ أبدًا أنه رئيسًا أو شيخًا على أحد وكان يرى نفسه أنه خادمًا للجميع، ولما أُنشأت له صفحة على الفيسبوك وكُتب كاسم لها "شيخ الطريقة البرهامية" دخل الشيخ بعدي مباشرة وغيرها إلى "خادم الطريقة البرهامية". وكان الشيخ يقول "لو طلبني واحد في أقصى محافظة وطلب مقابلتي لأمر الطريق لذهبت إليه وجلست معه وكفاني هذا"، وكان يقول: "أخ واحد صادق أحبه ويحبني لله يكفيني ولا أريد غيره".
ترك التكلف:
الشيخ كان إنسانًا قبل كل شيء ومع كل شيء، كان بسيطًا لأقصى درجة، تاركًا للتكلف على الدوام. لم يكن الشيخ أبدًا معقدًا في كلامه ولا في ضحكه ولا في معاملته، كان أبسط الناس وألينهم وألطفهم. إذا قال شيئًا قصده ولم يقصد غيره، ولم يظهر خلاف ما يبطن أبدًا. وكان يقول لي: "أنا أتصرف بناء على ما أجده في قلبي وليس غيره، ولا أستطيع أن أفعل خلاف ذلك".
والحقيقة كما ذكرنا أن الفوائد التي حصلناها من صحبة الشيخ لا تنتهى، ولكننا ذكرنا منها أول ما نذكره إذا استحضرنا الشيخ. عسى الله سبحانه وتعالى أن يجعل في قراءة سيرته إيقاظًا للقلوب وسُقيا للأرواح، ويجمعنا به في الدنيا والآخرة ظاهرًا وباطنًا، ويجعلنا ممن صدق معه في الصحبة وفي طلبه لله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ويحنن علينا قلبه الشريف ويرزقنا منه نظرة رضا فإن الله ينظر في قلوب أولياءه يحب من أحبهم ويعادي من عاداهم.
شارك المحتوي