أتكلم كثيرًا في مقالاتي عن الحب، ودائمًا ما أذكر أنه هو الدافع الحقيقي للخير في هذا العالم، وأنه ميراث النبي صلى الله عليه وآله وسلم . وأريد هنا أن استفيض في الكلام عن مدرسة جدي وشيخ شيخي سيدي عقيل مظهر، شيخ الطريقة البرهامية الدسوقية ووكيل مدرسة الحب.
سأتكلم قليلًا عن قصة هذا الولي الصالح، ودخوله في طريق الصالحين، ثم عن المدرسة التي أسسها والميراث الذي تركه لأبنائه ومريديه، ثم أختم برؤية الفقير لما نحتاجه هذه الأيام من معالم تلك المدرسة.
نشأة سيدي عقيل ودخوله الطريق:
نشأ وتربى سيدي عقيل في بيت أرستقراطي هو بيت عائلة "مظهر"، وهم أولاد محمد مظهر باشا أول من رأس بعثة محمد علي إلى فرنسا وهي البعثة التي كان فيها رفاعة الطهطاوي. وتخرج من هذا البيت الكثير من المفكرين والأدباء مثل أستاذ الجيل أحمد باشا لطفي السيد وهو خال سيدي عقيل، وأيضا الكاتب والمفكر إسماعيل باشا مظهر وهو والد الشيخ رحمه الله. تربى الشيخ في هذا البيت وكان يعيش في مقتبل شبابه حياة مليئة بالترف والرفاهية حتى أنه قد كان يصنع أزرار قمصانه من الذهب الخالص.
ثم في بداية الثلاثينيات من عمر الشيخ كان قد التزم طاعة الله وبدأ في البحث عن الطريق إليه. وكان عنده مكتبة كبيرة وكان يدأب على القراءة في أحوال الصالحين وكتب أهل الطريق. ثم من الله عليه بأكثر من إشارة واضحة تحثه على سلوك طريق التصوف عام، وطريق سيدي إبراهيم الدسوقي خصوصًا. وكان أعظمها في مدينة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما سافر للحج هناك وكان يناجي الحبيب كل يوم قائلًا له أن عقله قد امتلئ بالمعلومات ولكن قلبه ما زال خاليًا. وظل يناجيه يومًا تلو يوم أن يرشده لما يملىء فراغ قلبه حتى أتى إليه رجل من الصالحين يجيبه عما كان يسأل وأرشده أن يسلك طريق سيدي إبراهيم الدسوقي وأنه من سيرعاه في سلوكه لله.
معالم مدرسة الحب:
سلك الشيخ عقيل هذا الطريق وحدد معالمه بكلمة واحدة وهي "المحبة". فكانت المحبة الخالصة لله ورسوله وآل بيته والصحابة والصالحين جميعًا هي المنبع الرئيسي والمشرب الذي استقى منه الشيخ طريقته في معاملة الخلق جميعًا. محبة غير محدودة ببني آدم، بل تضم الحيوانات والنباتات بل والجمادات أيضًا. فكان يعامل كل ما خلق الله بمحبة وتأدب لله سبحانه وتعالى. فحكى لنا الشيخ أكرم أنه أخذ السيارة مرة وتركها والوقود على وشك الإنتهاء، وركبها الشيخ عقيل بعده، فترك للشيخ أكرم رسالة يقول فيها أن هذا يضر بمحرك السيارة، وهذا ليس من دواعي الإخلاص مع الله! فجعل الإضرار بالجماد من عدم الإخلاص مع الله، وهذه مفاهيم لا يفقهها إلا أولياء الله. وحكى لنا الشيخ أكرم أن معزة ماتت في المزرعة وكان لها معز صغير يتيم، فأخذه الشيخ عقيل معه للبيت وصاروا يعاملونه كحيوان أليف في الأسرة يطعمونه ويسقونه بنفسهم رحمة وشفقة به بعد موت أمه.
هذه المدرسة التي أسسها الشيخ عقيل دل عليها قبل أسبوع من وفاته، ففي يوم 5 أكتوبر 1993 وقبل وفاته بأسبوع كان مع أولاده ومريديه فقال لهم "هنا مدرسة الحب"، ولولا أنا ما جئتم أنتم ولولا أنتم ما جئت أنا، ولا تظنوا يا أولادي أن الشيخ إذا مات غاب عن أولاده وغابوا عنه بل هو لهم أقرب". وقد كان هذا نعي الشيخ إذ توفى بعدها بأسبوع في الليلة الختامية للاحتفال بمولد سيدنا الإمام الحسين رضي الله عنه.
احتياجنا لها هذه الأيام:
الزمان الذي نعيش فيه الآن هو أحوج الأزمنة لمدرسة الحب. لأنه إذا تمسك الكل بعقله ورأيه، صار الدليل والبرهان لا فائدة فيه ولا طائل منه، واحتجنا أن نخاطب القلوب وليس العقول. لأن القلوب المغلقة تتسلط على العقول فتدخل فيها ما يوافقها وتصد عنها ما يتعارض معها. وحينئذ نحتاج لفك أسر هذه القلوب وفتح أغلاقها لكي تستنير بأنوار المحبة التي تذهب عن النفس التعصب والعنف والبغضاء والكراهية. بعدها يصبح حوار العقول والأفكار متاحًا لأن كل الأطراف تكون مستعدة للمشاركة والمعايشة، أما ما نحن فيه فلن يحله النقاش والحوار لأن كل طرف يبغض الأخر ويتمنى زواله فكيف يتناقش في معايشته؟ ولا أرى سبيل حقيقي للخروج مما نحن فيه إلا بطاقة نورانية من المحبة تطفئ نيران البغض والكراهية وتعيد القيم والأخلاق المفقودة فينصلح بها البلاد والعباد.
ولهذا الأمر يوصينا الشيخ أكرم مظهر أن نخرج للخلق ببضاعة المحبة وننفق منها على القاصي والداني دون تفرقة ودون انتظار مقابل، طالبين من الله أن يخلق بهذه المحبة الأثر الذي يصلح ما أحرقته نيران الكراهية والبغضاء. نسأل الله أن يجعلنا لهذه الوصية من الحافظين، وأن يجعلنا خير من خدم مدرسة الحب وسار على نهج سيد المحبين صلى الله عليه وآله وسلم.
شارك المحتوي