ما هو الطريق؟



كثر الحديث عن التصوف في الآونة الأخيرة، وكثر استخدام كلمات مثل: الطريق والتصوف والمريد والشيخ، واستخدمت في محلها في أوقات وفي غير محلها غالبًا. مما جعل المسترشد عن حقيقة الأمر في حيرة، بسبب ما يسمعه هنا وهناك، وما يرى من هذا وذاك، والكل ينسب نفسه للتصوف ويتغنى بأشعار المحبة والعرفان. فاستخرت الله أن أكتب عن الطريق مما علمنا الشيخ أكرم رحمه الله وقدس سره في مقالة موجزة، أبين فيها معالمه كما أرشدنا إليها، والله المستعان.


وقبل أن نتكلم عن الطريق يجب أن نسأل أنفسنا بضعة أسئلة، هي المحرك الإنساني لطلب المعرفة، والسبب في طريق التوبة والإنابة، وهي: كيف جئت إلى هنا؟ ومن أنا ؟ وماذا أفعل هنا؟ وإلى أين أذهب؟ 

هذه الأسئلة التي تبدأ بها رحلة الإنسان في إنسانيته، لأنها تفرق بينه وبين غيره من المخلوقات، التي ليس لها أن تسأل أنفسها هذه الأسئلة. وليس المطلوب هو الدخول في نقاش فلسفي حول هذه الأسئلة "الوجودية"، لأن إجاباتها عندي إجابات يقينية لا ظنية، خبرية لا اجتهادية، جاءت على لسان العصمة النبوية عن الطريق الوحي الشريف. ولكن حتى تستقر إجابات هذه الأسئلة في عقل ووجدان الإنسان، فرحلة العودة إلى بارئه لم تبدأ له بعد، لأنه لم يحدد مقصده، ولا ارتحال دون معرفة المرتحل إليه.


فإذا عرف الإنسان إجابات هذه الأسئلة، وفهم أن من جاء به من العدم إلى الوجود خلقه لعبادته ومعرفته، وجد في قلبه الباعث على القيام بمراد خالقه منه، واقترن هذا الباعث بالشوق لمعرفة هذه الذات الإلهية، فشمر عن ساعديه ليبدأ طريق الإنابة إلى ربه "اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ"، فتظهر عليه لوائح الإرادة والعزم  ويُسمى المريد. وهنا يظهر لماذا سُمى الطريق طريقًا، لأن له نقطة بداية وهي هذا الباعث المذكور، وله نقطة نهاية وهي معرفة الله والدخول في حضرته، وهي نهاية نسبية لا مطلقة، لأن مراتب المعرفة بالله لا تنتهي أبدًا.


فينظر حينئذ في كيفية سلوك هذا الطريق، وكيفية تحصيل مبتغاه من العبادة والمعرفة لربه، فيجد أن الله خلق أنبياء ورسل، أرشدهم لهذا الطريق وكلفهم بتبليغ الخلائق، ليكون طريق الإنابة واضحًا لا لبس فيه، محفوظ بالعصمة، مؤيد بالوحي، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. ترشده هذه الرسالة لمبادئ هذا الطريق وأصوله، فيجد فيها قوله تعالى:"وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أنابَ إليَّ"، ويجد فيها "الرَّحْمَنُ فاسْألْ بِهِ خَبِيرًا"، فيعلم أنه محتاج لمن تمت إنابته وتحققت خبرته بهذا الطريق، ويُسمى الشيخ.


وفي هذا الكلام تفصيل كبير، في مراتب هذا الطريق، وأحوال المبتدئ والسالك والمنتهى، وفي شروط الشيخ وكيفية التعامل معه والأخذ عنه، وفي طرق التسليك بين مربٍ وأخر، وفي أحوال المريد إن افتقد إلى المربى، وهكذا. ومما يخلق اللبس عند البعض هو الانشغال بهذه التفاصيل، والشروع في مطالعة كتب السلوك والأخذ عن المشايخ، دون تحديد شرط الإرادة وتحديد المقصد، مما ينقل الطريق من بداية ونهاية إلى دائرة مغلقة، ما نرحل منه هو ما نرتحل إليه، وللأسف لعموم البلوى صار هذا يسمى في زماننا طريقًا، فتجد الواحد يمضي عمره كله في هذه الدائرة وهو لا يتحرك في الطريق قيد أنملة، لأنه لا يعرف إلى أين يريد أن يذهب؟ وكيف يعرف أنه يتقدم؟ وكيف يعرف من تمت إنابته ليرشده في سلوكه؟


فالفرق بين المتكلم عن الطريق وسالكه كبير، وقد تجد من يحفظ كتب القوم كلمة كلمة، وليس له في الطريق قدم البداية، لأنه لم يحدد مقصده، ويحكم توبته، ويعزم على هجرة الأكوان إلى المكون، " إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ"، وقد تجد من يدرس التصوف كعلم أكاديمي، ينظر في تراثه، ويبحث في أصوله وفروعه، وهو يظن بذلك أنه متصوفًا أو صوفيًا، وهو يجهل أن الطريق مبني على التجربة والذوق، لا على الدراسة والتحليل.


ولهذا كان كلام الأقطاب الكبار عن الطريق أغلبه يتسم بالبساطة، ويدور حول فلك تصحيح العبادات والمعاملات، والتخلق بأحسن الأخلاق، حسن التوجه والقصد لله تعالى، لأنهم علموا أن هذا مدار الأمر، وأن الكلام الكثير يورث العمل القليل، وأن من مداخل الهوى تعطيل العمل بالجدل، والانشغال بفروع الفروع دون إحكام الأصول.


فمن أراد سلوك الطريق حقيقة فليبدأ بإحكام إجابات الأسئلة المذكورة سابقًا، ويجعلها نصب عينيه في كل أحواله، ثم يحدد مقصده من وجوده وينوي التوبة والإنابة مستعينا بربه، ويشرع في تصحيح ما فرضه عليه مولاه وفي اجتناب ما حرمه عليه. فإن أتمم ذلك بصدق فقد وضع في الطريق قدمًا لم يضعها غالب من انتسب للطريق في زماننا، وسيجد من أثر ذلك في قلبه ما يورثه يقينًا لم يجده من قبل، يقينًا حقيقيًا مصدره "وَلَٰكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ" و "إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ۗ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ". وبعد ذلك يتهيأ للسير في ركاب القوم بفضل الله ومنته، وبحبه للصالحين والتعلق بهم، وببركة الشيخ الذي يرشده ربه إليه،  وللحديث بقية بإذن الله تعالى.


شارك المحتوي