بداية السلوك: الوسطية



من دواعي الإخلاص عند تعلم أي علم جديد، هو أن نفرغ له مكان في عقلنا وقلبنا حتى نستطيع أن نستوعب هذا العلم كما هو، وليس كما نريده أن يكون. فنحن نريد أن تنطبع حقيقة هذا العلم في قلوبنا فنعرفه، ولا نريد أن نطبع العلم بصورتنا فنستقبله كما نريده أن يكون. وبلا شك أن أشرف أنواع المعرفة هي المعرفة بالله وأشرف العلوم هي العلوم الشرعية الحنيفة. ولهذا وجب علينا أن نعامل هذه العلوم بأقصى الإخلاص، فلا نستخدمها لتحكيم أهوائنا الشخصية أو انتمائتنا الاجتماعية. 


عندما قاتل الإمام علي الخوارج قال لأصحابه :"لا يقتلون منا عشر، ولا يبقي منهم عشر"، فقُتل من أصحاب الإمام ستة وتبقى من الخوارج أربعة. فقال أصحابه: قضينا على الفتنة يا أمير المؤمنين. قال الإمام علي: "لا، إن لديهم أذناب يخرجون علينا في كل زمان". ومن سمة الخوارج أنهم كانوا يحملون كتاب الله معاني مختلفة تخدم أهوائهم وطبيعتهم المُغالية. 


 إذن فوجود التطرف شيء طبيعي في كل المجتمعات الإنسانية، من آكلي لحوم البشر إلى متزوجي الحيوانات الأليفة. ولكن ميزان المجتمعات يظهر فيه الخلل عندما لا يكون هناك ثوابت من القيم والمبادئ التي يتفق عليها الغالبية العظمى مكونين بها الطبقة "الوسطية". أهمية هذه الطبقة هي أنها التي تعرف نقيضها بالتطرف وبذلك يبقى المتطرفون قلة قليلة. يقول الله تعالى: وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا". ويقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم:"خير الأمور أوسطها"، وقال أيضًا: "هلك المتنطعون، هلك المتنطعون، هلك المتنطعون" والتنطع هو المغالاة.


ولذلك فالمخيف هو ليس ظهور التطرف، المخيف هو اختفاء الوسطية. وهذه معضلة كبيرة، لأن الفكر لا يواجه إلا بالفكر. فيجب علينا في هذا الوقت خصوصًا أن نجتهد لنتعلم أصول هذا الدين الحنيف، ونعرف غرض الله من هذا الكتاب الكريم الذي بدأه بسم الله الرحمن الرحيم، ونعرف غرضه من هذا النبي العظيم الذي أرسل ليرحم به العالمين. ولا ننخدع بما يقول به متنطعين هذا الزمان، فإن الدين الذي أدين به أمام الله تعالى هو دين حب ورحمة وحرية وتعايش وخُلق حسن.  كما يقول سيدي محيي الدين بن عربي:


"أدين بدين الحب أينما توجهت *** ركائبه فالحب ديني وإيماني"


إن كل ما يجري في هذه الأيام ما هو إلا لأن الغالبية العظمى تركت كتاب الله وسنة رسوله لفهم بعض المتنطعين، وأصبحوا هم كل من يتكلم بسم الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. ولهذا وجب علينا أن نعود لكتاب الله وسنة نبيه وكلام العلماء حتى نفهم حقيقة هذا الدين والمقصود منه. ووجب علينا أن نساند الأزهر الشريف وعلماؤه لأنهم هم منبر الوسطية الحقيقية، بل هم أخر منبر للدفاع عن الوسطية وإن ذهبوا فإنا لله و إنا إليه راجعون.


شارك المحتوي