تعودنا في كل تعاملات حياتنا أن لكل شيء وسيلة، فإذا احتجنا إلى شراء شيء مثلًا، يجب أن يكون معنا ما يكفي من المال لشراء هذا الشيء. ويجب أن يكون بائع هذا الشيء محتاج لما عندي من المال فإذا تساوت قيمة حاجاتنا تبادلنا ما لدينا. البعض منا حاول فهم علاقته بالله سبحانه وتعالى بمثل هذه الطريقة، فخُيل إليه أنه يبتاع الرضا من الله بما يقدمه له من الطاعة، وظن أنه إذا جمع ما يكفيه من الحسنات كفاه ذلك سؤال يوم عظيم. والحقيقة أنه لا يمكننا تصور هذه العلاقة مع الله لأنه سبحانه وتعالى لا يحتاج إلى شيء ولا يؤثر فيه شيء، فلو احتاج شيء لكان هناك من يعطيه، وهذا لا يليق مع الله سبحانه وتعالى ولو كان يؤثر فيه شيء، لكان هناك مؤثر سواه. ولكنه سبحانه وتعالى غني عن العالمين وكل من سواه مفتقر إليه، أولًا بالإيجاد ثم بتوالي الإمداد كما قال سيدي أحمد بن عطاء الله السكندري. فأين كان لنا الاختيار عندما أتى الله بنا من العدم إلى الوجود؟ ولو لم يكن لنا هذا الاختيار فكيف نتخيل أن يكون لنا حول أو قوة في غيره ؟ أفيأتي بنا إلى هنا بلا اختيار ثم نستغنى عنه؟ ولما أتى الله بنا إلى هنا؟ افتقرنا إليه في وجودنا ذاته، فرزقنا متوقف على رحمته ولو مُنعنا عنه لعُدنا عدمًا. والحاصل أن الله سبحانه وتعالى قال "يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ واللَّهُ هو الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ ويَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ومَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ".
فكل من عبد الله عبادة الندية وتخيل أن له أو عنده أو يملك شيء أمام الله فهو في ضلال بعيد، وهو في أشد غفلة عن الله:"قُلْ مَن كَانَ فِى ٱلضَّلَٰلَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ ٱلرَّحْمَٰنُ مَدًّا".
وفي هذا يقول سيدي إبراهيم الدسوقي: "لا تدعي يا ولدي أبدًا أن لك معاملة خاصة مع الله، وأعلم أنك إن صُمت فهو الذي صومك، وإن قمت فهو الذي أقامك، وإن مننت فهو الذي مَن عليك. وليس لك من الأمر شيء إلا أن تدعي أنك عبد عاص مفلس لا حسنة لك".
وهو حقيقي فكيف تكون لك الحسنة وهو الذي أحسن إليك؟ وهو الحاكم فيك إن شاء قبلك وإن شاء ردك. فالواجب على من كل أراد طريق الله عز وجل أن يتخذ الفقر وسيلته والعجز وصفه فإن كان على هذا الوصف دخل في زمرة الفقراء والمساكين، وكان له في صدقات الله حظ كبير لقوله سبحانه وتعالى: "إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ"، ومن كان على هذا القدر من الاضطرار رُزق سرعة الاستجابة من الله لقوله :"أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ".
فاستشعر فقرك وذُلك لله، لأنك تحتاج إليه في كل شيء، وهو لا يحتاج إليك في شيء. أنت تفتقر إليه في كل شيء، وهو غني عنك في كل شيء. فأخرج عن وهم ذاتك إلى حقيقة ذاته فهو الموجد وأنت الموجود به، وهو الخالق وأنت من آثار خلقه. فلا وجود بحق إلا لله، وكل من سواه فهو من آثار فعله وإرادته: "هُوَ الأوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ". فتحقق بعجزك يمدك بقدرته، وتحقق بجهلك يمدك بعلمه، وتحقق بفقرك يمدك بغناه، وتحقق بذلك يعزك بعزته.
تحقق بهذا المعنى الأولياء، فصنفوا فيه وأرشدوا إليه. فقال سيدي إبراهيم الدسوقي ما ذكرناه وبدأ سيدي ابن عطاء الله السكندري حكمه المشهورة بقوله: "من علامة الاعتماد على العمل نقصان الرجاء عند وجود الزلل". إشارة منه ألا يكون اعتمادنا إلا على الله، لأنه حاكم للأسباب ولا تحكمه الأسباب، "لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ"، فلا نتوسل إليه إلا بفقرنا إليه، ولنعلم أنه كل علم أو عمل لا يورث أدبًا فلا خير فيه.
ندعو الله سبحانه وتعالى أن يُقمنا في مقام العبودية الكاملة له، فنتحقق بأوصافنا لنعرف أوصافه بجاه، وأن ينقذنا من الغفلة ويخرجنا من ظلمة الوهم إلى نور الفهم إنه على كل شيء قدير، وصلى الله على سيد الأولين والآخرين وحبيب رب العالمين وعلى آله وصحبه وسلم.
شارك المحتوي