بداية السلوك: التوبة



يقول الله تعالى: "وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ". فأقام الله علينا الحجة من قبل وجودنا الحسي في هذا العالم وأخذ علينا هذه البيعة في عالم الذر والروح كما فسر معناها العلماء. وفي هذه الآية كان الشهود الكامل والحقيقي من قبل جميع الخلق للحق سبحانه وتعالى. 

فقد رأى كل منا الله سبحانه وتعالى وشهد أنه لا إله إلا هو وأنه هو الرب الوحيد. أي أنه لا رازق سواه ولا قادر سواه ولا مريد سواه ولا حبيب سواه. ثم حذرنا الله في هذا الموقف العظيم أن نقف أمامه يوم القيامة ونقول أننا كنا غافلين عن هذا العهد أو أننا نسيناه.

 ثم كان ما كان سكنت أرواحنا هذه الأجساد وشاء الله أن نسكن هذه الدنيا وقد انطمست أنوار هذا الموقف العظيم الذي شهدناه وهذا العهد الذي أخذناه، فنسينا أننا رأينا الله وشهدنا له بوحدانية الألوهية والربوبية. ولهذا يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم:"فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّر". فالذكرى تكون لمن نسي، ليس لمن لا يعلم. ولهذا بعث الله الأنبياء والمرسلين، ليذكروا الخلق بهذا العهد القديم ويدلوهم على طريق الرجوع إلى الله.


فالتوبة عودة ورجوع، رجوع لذلك العهد القديم وإتمام لهذه البيعة التي أخذها الله علينا، والحقيقي أن كلنا يمر بهذه التخبطات بين الحضور والغفلة، وبين الإقبال والإدبار. ولما علم الله بهذا منا سن لنا التوبة والإستغفار، حتى نسترجع معاني "ألست بربكم"، فنقول توبنا إلى الله ورجعنا إلى الله وندمنا على ما فعلنا وعزمنا على أننا لا نعود إلي ذنب أبدًا وبرئنا من  كل قول أو فعل أو دين يخالف دين الإسلام والله على ما نقول شهيد. ولا يمنعنا أي ذنب اقترفناه من حسن الظن بالله، فإن قابلنا الله برحمته، يغفر جميع ذنوبنا ولا يُبالي كما يقول الإمام البوصيري في بردته:

 "يا نفس لا تقنطي من زلة عظمت  … إن الكبائر في الغفران كاللمم".


ولما نعلم أن هذا التقلب في الأحوال من طبيعة البشر ومن سنن الكون، حتى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "كل ابن آدم خطاء"، وخير الخطائين التوابين"، فهمنا أن الكل يُخطىء، ولكن العبرة في التوبة ولزوم الباب. فإن لازمنا باب الله ولم نضجر ونضيق، قبلنا على ما فينا برحمته، ووفقنا لما فيه خلاصنا بمنته. فلا ننتظر من الخلق أو من أنفسنا الكمال لأنه لن يحدث، ولكن كلما أخطأنا توبنا وعدنا، واسترجعنا عهدنا مع الله وتذكرنا قوله لنا ألست بربكم وتذكرنا ردنا عليه عز وجل بـ بلى.


وإن أردنا أن يقبل الله توبتنا فلنكثر من العفو عن الخلق بغير حساب، نعفو عن من ظلمنا حتى يعفو الله عنا إذا ظلمنا، نصل من قطعنا حتى يردنا الله إليه إذا نسينا، ونجود على الضعاف من خلق الله حتى يجود الله علينا. ولنا في الإمام علي زين العابدين بن الحسين خير مثال إذ دخل عليه رجل وسط أصحابه فقال له:"أنت زين العابدين؟". فقال له الإمام:"أنا هو والحمد لله"، فرد عليه السائل:"بل أنت شر العابدين". وأخذ يسبه حتى إذا فرغ الرجل قال له الإمام يا هذا ما أخفى الله عنك من مساوئ أكثر مما ذكرت، ودفع إليه بعبائته وبعض المال فما كان من الرجل إلا أن بكى، وقال له أنتم أبناء الأنبياء حقا.


فلنصل قلوبنا بقلوب أناس تذكروا عهد الله ووضعوه نصب أعينهم فعاشوا له وماتوا له، ولا نكون من الغافلين الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه. ونسأل الله أن يمن علينا بتوبة نقية طاهرة خالصة لوجهه يطهر بها أجسادنا وقلوبنا وأرواحنا حتى نحمل الأمانة التي كلفنا إياها، ونلقاه يوم القيامة لقاء الأحبة وهو عنا راضٍ، وصلى الله على سيد التوابين والمستغفرين سيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.


شارك المحتوي