لعل أكثر فرض من فروض الإسلام تم تركه جانبًا ونسيه هو فرض الإخلاص. إن سر الإخلاص هو رباط هذا الدين، وهو المعنى الحقيقي لـ صلة العبد بربه. أما كافة الأعمال الجسدية والقلبية إنما هي أواني لحمل معنى الإخلاص. فإن فُقد الإخلاص كانت هذه الأواني كلها فارغة، لا فائدة منها ولا ربح لصاحبها.
لهذا نرى كثير من الناس يكثرون في العبادات الظاهرة ويشقون علي أنفسهم فيها، ورغم ذلك لا يُرى عليهم سيما العارفين أو بهجة المحبين. فقد ذكرنا سابقًا حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "إن الله لا ينظر إلى أجسامكم، ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم". فإن نظر الله إلى قلب العبد ووجد أنه لا يتوجه له مخلصًا بعمله فما الفائدة من العمل؟ إن الله غني عن أعمالنا كافة ولا نزيد فيه شيء، ولكنه يريد منا أن نخلص له الدين، والميدان الذي يمكننا أن نظهر له هذا الإخلاص فيه هو ميدان العمل.
يقول الله سبحانه وتعالى: "وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ"، فيأمرنا الله سبحانه وتعالى بالإخلاص بل ويسمي سورة كاملة باسم الإخلاص ويخبرنا على لسان نبيه أنها تزن مثل ثلث القرآن كله.
فلما كان للإخلاص هذه الأهمية في ديننا وجب علينا أن نتفكر فيه ونعمل على تنميته فينا.
والإخلاص ببساطة هو: توحيد القصد من العمل ليكون المقصود هو مرضاة الله وحده. ولكن هذا المعنى يتفاوت فيه الناس علي حسب إيمانهم. فهناك من يخلص في عبادته فقط، بأن ينقي نفسه من الرياء في العبادات كالصلاة والصيام والزكاة حتى تُقبل منه، لأن الله لا يقبل بالشريك كما حذرنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "أخوف ما أخاف على أمتي الشرك الخفي وهو الرياء". وهناك من يخلص في حياته كلها لله وهم أهل تمام الإيمان بحق، :" قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ"، هؤلاء الناس عرفوا معنى قول الله:"إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ"، فلم يقصدوا الله فقط في عباداتهم، بل قصدوه في كل شيء.
فحركاتهم وسكناتهم وكلامهم وسكوتهم وتجارتهم وعملهم وكل ما فيهم لله. لأنهم عرفوا أنه لا يوجد هناك مقصد أسمى ولا أفضل ولا أشرف من وجه الواحد الأحد الفرد الصمد. هؤلاء هم الذين قال فيهم الله تعالى: "وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ".
والحاصل مما سبق أن خلق الله هم عباده، ومهمة العباد خدمة سيدهم بالانصياع لأمره والخضوع لقهره على الدوام. بمعنى أن لا نجعل أنفسنا عائق بيننا وبين الله، لأن الإخلاص هو إخراج الأغيار من معاملة الله، وأول الأغيار هو النفس كما يقول سيدي ابن عجيبة الحسني في شرحه لحكم سيدي ابن عطاء الله السكندري. والمقصود بإخراج النفس: هو إخراج شهواتها ومطالبها وحظوظها من المعاملة مع الله. بمعنى ألا يكون لي أي غرض أو قصد أو مصلحة من عملي إلا إبتغاء مرضاة الله تعالى. إن كنا على هذا الوصف صح لنا الوصال، وكنا من أهل الإخلاص الكامل الذي اصطفاهم الله سبحانه وتعالى ليكونوا أهل ولايته وجنوده في الأرض.
ندعو الله الكريم المنان الرحيم الرحمن ذو الجلال والإكرام أن يرزقنا الإخلاص التام والكامل الذي يُجبر به نقص أعمالنا ويقبلنا به، ببركة هذا الشهر الكريم الذي جعله ميقاتا لتنزل الرحمات. وندعوه أيضًا أن يرزقنا في رمضان الهمة والنية والعمل الذي يقربنا إليه ويرضى به عنا وألا يخرجنا من هذا الشهر إلا و قد غفر لنا ما قبله ورزقنا التقوى لما بعده ببركة قوله:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ"، فاللهم كما رزقتنا الصحة والعافية لصيام رمضان فلا تحرمنا أجره ولا أثره. وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله الأطهار شموس الهداية وسفن النجاة وعلى صحابته الكرام وسلم تسليمًا كثيرًا.
شارك المحتوي