إن شرف النسبة إلى الله في مقام العبودية هو أعلي شرف وأعلى نسبة قد يطلبها العبد من ربه. ودليل هذا أن الله عندما أراد أن يخاطب أنبيائه في مواضع تشريفهم خاطبهم بالعبودية فقال:" سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى". وقال أيضًا:" فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى". فسبحان الذي أخفى أسرار الربوبية في التحقق بالعبودية فجعل العز في الذل والغنى في الفقر والقدرة في العجز والعلم في الجهل. نسمع كثيرًا مقولة بها الكثير من الحكمة: "من عرف نفسه، عرف ربه" أي من عرف الصفات الواجبة للنفس البشرية التي خلقها الله، علم بوجوب وجود مضاد هذه الصفات عند الله. فلما يقول الله: "وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا"، يقابلها بقوله: "وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ"، فجهل الإنسان يقابله علم ربه، وفقر الإنسان يقابله غنى ربه: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ"، وعجز الإنسان يقابله قدرة ربه، "وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ"، وذل الإنسان يقابله عزة ربه.
أنشد أحدهم قائلًا:
"تذلل لمن تحب كي تنال العزة *** فكم من عزة قد نالها المرء بالذل"
قوة العبد كلها في تسليم نفسه لمولاه، وتبريه عن حوله وقوته. يكون سيدنا موسى عليه سلام الله مع من آمن به واقفون محاصرون من البحر من جهة، ومن جنود فرعون وهامان من الجهة الأخرى. تقطعت بهم الأسباب الظاهرة كلها فيجزع أتباع سيدنا موسى ويقولوا كما جاء في الكتاب:"قَالَ أَصْحَابُ مُوسَىٰ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ". فيرد عليهم سيدنا موسى بحسم يظهر لنا كمال إيمان الأنبياء بالله : "كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ". ثقة وتوكل كاملان على الله سبحانه وتعالى، والتحقق بقول لا حول ولا قوة إلا بالله. سيدنا موسى يعلم أن الأسباب لها مسبب وأن هذا الكون له مدبر، فلا يجزع ولا يخاف ولا يعتمد على نفسه فيقول لنفعل كذا أو كذا بل يقول "كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ".
هذه المعرفة بقدرة الله سبحانه وتعالى هي التي تورث العارفين الأدب الذي يتسمون به. فإن الأدب يأتي بمعرفة عظمة هذا الإله وجلاله، فلا يملك العبد إلا ليخضع تحت جبروت سلطانه. ولهذا يمشي عباد الرحمن هونًا، ولهذا إذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلامًا. لأنهم في مقام مشاهدة جلال الله سبحانه وتعالى فلا يملكون إلا التذلل والخضوع له، لا يأبهون بالناس لأنهم في معية رب الناس. ولهذا يردون على الجاهلين بالسلام، لأنهم يعاملون الله في خلقه.
عرف أهل الله أن باب الخضوع والإنكسار هو أسرع باب للدخول على الله، فقال سيدي إبراهيم الدسوقي شيخ الطريق وإمام أهل التحقيق:
"إذا أردت يا ولدي أن تفهم أسرار القرآن العظيم فأقتل نفس دعواك، وأذبح شبح قولك، وأطرح نفسيتك تحت أقدامك، وعفر خديك على الثرى، وأشهد أن نفسك قبضة من تراب، واعترف بكثرة ذنوبك وخف أن ترد عليك عبادتك وقل يا ترى متى يُقبل مني عمل؟ فإذا كنت على هذا الوصف فُيرجى لك أن تشم رائحة من معاني كلام ربك وإلا فباب الفهم عنك مغلق". قال سيدي ذو النون المصري: "العبودية أن تكون عبده في كل حال، كما أنه ربك في كل حال".
وعاقبة التذلل والخضوع لله تعالى هي الرفعة من الله، والوضع في عين عناية الله. فرُوي أن سيدنا موسى سأل الله تعالى فقال:" يا ربي أين أجدك؟" فقال الله له: "ستجدني عند المنكسرة قلوبهم من أجلي".
وفي قصة سيدنا موسى في سورة الكهف عندما قابل العبد الصالح وصحبه يقول الله تعالى: "أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ"، يستخدم الله نبيه وكليمه سيدنا موسى، ومعه العبد الصالح لينقذوا ركاب هذه السفينة ويعرفهم بوصف المسكنة. فما قيمة المسكنة عند الله حتى يبعث رسولًا وعبد صالح لرعاية المساكين؟ شرف عظيم ومعاملة خاصة لأهل المسكنة مع الله.
والحقيقة أنه ليس لأمثالي أن يتكلموا في هذه الرقائق من الأدب وعلم التزكية ولكننا ننقل لكم بعض ما تعلمناه من شيخنا سيدي محمد أكرم عقيل مظهر عسى الله أن يبارك لنا فيه وينفعنا به في الدارين. وندعو الله الكريم رب العرش العظيم أن يسبل علينا جميل ستره، فيخفي عيوبنا بجميل صفاته ويطيب قلوبنا بشهود ذاته. وندعوه أيضًا أن يُذيقنا حلاوة التسليم إليه والتذلل بين يديه وأن يبعث لنبيه وحبيبه وصفيه ومجتباه منا أتم صلاة وتسليم، إنه على ذلك قدير.
شارك المحتوي