بداية السلوك: مقدمة عن التصوف



حقيقة هذا الدين ليست بفصاحة اللسان وعذوبة الكلام، ولكنها تحقق بصفات حبيب الرحمن. ولذا فإن كل من لم يكن متخلقًا بأخلاق النبي صلى الله عليه وآله وسلم فهو ليس أهلًا لأن يتكلم بسم الله ورسوله. ولهذا فإن العلماء علي مر الزمان حرصوا كل الحرص على تزكية النفس وتربيتها ليكونوا أهلًا ليتكلموا بكلام خير الأنام. فيقول أحدهم: "صحبت شيخي عشرون عامًا، تلقيت العلم في سنتين والأدب في الباقي، ووددت لو قضيتها كلها في تعلم الأدب".


ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وآله سلم: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق". ويقول الله تعالي: "وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ". ويقول أيضا: "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ". 

وهذا يجعلنا نعيد ترتيب موازين القياس عندنا لنفهم من هو "المتدين" حقيقة ومن المدعي؟ فيقول الله سبحانه وتعالى عن يوم القيامة: "يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ"، فيعلق سلامة المؤمن يوم القيامة على قلبه أولًا ثم أعماله. 

ومن هنا نفهم أن سلامة الصدر وحسن الخُلق هما من شروط الإيمان وقبول الأعمال وبدونهما فلا يتم عمل عامل ولو أفنى عمره كله في الصلاة والصيام والقيام. 

والدليل على هذا قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم". فأتى نظر الله إلى القلب قبل نظره إلى الأعمال، فإذا نظر إلى القلب فوجده فاسدًا فما قيمة الأعمال؟ ولما كان إصلاح القلوب له هذه الأهمية عند الله وأنه عماد صلاح العبد وقبول أعماله، تفرد العلماء لتصنيف طرق علاج هذا القلب وهذا ما سمي بعلم التزكية أو التصوف. 

فحقيقة التصوف كما يبينها سيدي الشيخ عقيل مظهر:"التصوف هو علم صناعة القلوب السليمة". 



ولهذا فيقول الإمام الغزالي حجة الإسلام عن التصوف:


"إني علمت يقينًا أن الصوفية هم السالكون لطريق الله تعالى خاصة، وأن سيرتهم أحسن السير، وطريقهم أصوب الطرق، وأخلاقهم أزكى الأخلاق. بل لو جُمع عقل العقلاء، وحكمة الحكماء، وعلم الواقفين على أسرار الشرع من العلماء، ليغيروا شيئًا من سيرهم وأخلاقهم ويبدلوه بما هو خير منه، لم يجدوا إليه سبيلًا. فإن جميع حركاتهم وسكناتهم، في ظاهرهم وباطنهم، مقتبسة من نور مشكاة النبوة؛ وليس وراء نور النبوة على وجه الأرض نور يستضاء به". 

وبالجملة فماذا يقول القائلون في طريقةٍ طهارتُها – وهي أول شروطها – تطهيرُ القلب بالكلية عما سوى الله تعالى، ومفتاحها الجاري منها مجرى التحريم من الصلاة استغراق القلب بالكلية بذكر الله، وأخرها الفناء بالكلية في الله.


ويقول الإمام الشافعي عن التصوف:


"حبب إليّ من دنياكم ثلاث: ترك التكلف، وعشرة الخلق بالتلطف، والاقتداء بطريق أهل التصوف".


ويقول الإمام شيخ الإسلام جلال الدين السيوطي عن التصوف:


"إن التصوف في نفسه علم شريف، وإِن مداره على اتباع السنة وترك البدع، والتبرِّي من النفس وعوائدها وحظوظها وأغراضها ومراداتها واختياراتها، والتسليمِ لله، والرضى به وبقضائه، وطلب محبته، واحتقارِ ما سواه". وعلمتُ أيضًا أنه قد كثر فيه الدخيل من قوم تشبهوا بأهله وليسوا منهم، فأُدخلوا فيه ما ليس منه، فأدى ذلك إِلى إِساءة الظن بالجميع، فوجَّه أهلُ العلم للتمييز بين الصنفين ليُعلمَ أهل الحق من أهل الباطل، وقد تأملتُ الأمور التي أنكرها أئمة الشرع على الصوفية فلم أرَ صوفيًا محقِّقًَا يقول بشيء منها، وإِنما يقول بها أهل البدع والغلاةُ الذين ادَّعَوْا أنهم صوفية وليسوا منهم.


شارك المحتوي