ذكرت في مقال الأسبوع الماضي وغيره من المقالات بعض المسائل التي كثر فيها الكلام وتم فيها التلبيس على العوام، فانقلبت فيها الحقائق في رؤوسهم، واستقر في كثير من الأذهان أمور معكوسة وأفكار مدسوسة. وأود أولًا أن أشير إلى أن الغرض من بيان هذه الأمور ليس الانتصار لطائفة أو مهاجمة أخرى ولكن الغرض هو تصحيح المفاهيم وبيان المنهج القويم. ذلك أن ما يقوم به بعض مدعي العلم من حمل الناس على رأي واحد في مسائل خلافية، بل قد يحملون الناس على رأي شذ عن آراء جمهور العلماء وفي بعض الأحيان عن إجماعهم انتصارًا لفكر يحاولون فرضه على الناس عن طريق الإرهاب الفكري، نعم فالاتهامات بالشرك والبدعة والضلالة جاهزة ومعدة لكل من يخالف ولو في مسائل الفروع التي حولوها هم إلى أصول، فإن لم يكن هذا إرهابًا فكريًا فماذا يكون إذن؟ ومن أول هذه المسائل التي نحن بصددها الآن، والحق أنها من أشنع ما قالوا، ألا وهي تحريم السفر بنية زيارة الرسول -صلى اللَّه عليه وآله وسلم- وقولهم إن هذه النية تجعل هذا السفر "سفر معصية!!!!" هذا القول العقيم والفهم السقيم كيف يمكن أن ينتج عن قلوب محبة لله ورسوله؟ والحق أن مسألتي التوسل والزيارة من المسائل التي كثر فيها الكلام، واختلطت فيها الآراء، ولكن من أسوأ وأشنع ما فعل في هاتين المسألتين أن المتشددين، أدخلوا هاتين المسألتين في مسائل الاعتقاد بعد أن دأبت الأمة وعلماؤها على التعامل معهما على أنهما من مسائل الفقه أي الفروع، ومن ثم فصار الأمر بدلًا من أن يدور الحكم فيه بين كونه جائزًا أو محرمًا، مندوبًا أو مكروهًا، صار الحكم فيه يمس كما زعموا عقيدة المسلمين.
فحصل بسبب ذلك الخوض في أعراض أئمة المسلمين، والتشكيك في عقيدة جماهير المؤمنين. ونود هنا أن نشير إلى أن زيارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر أطبق علماء الأمة على استحبابه أو وجوبه بسفر أو بدون سفر، ومن قال بتحريم السفر للزيارة قد ابتدع وخالف إجماع فقهاء الأمة بل وخالف نصوصًا صريحة.
ولما كان كاتب هذا المقال من عوام الناس ومن المقلدين فسوف أكتفي في هذا المقام بنقل أقوال الأكابر من علماء الأمة في مسألة الزيارة لبيان الحق الذي تم التلبيس فيه على المسلمين. قال الإمام -المُجمع على علمه وفضله- النووي رحمه اللَّه في الإيضاح في مناسك الحج: "إذا انصرف الحجاج والمعتمرون من مكة فليتوجهوا إلى مدينة رسول الله -صلى اللَّه عليه وآله وسلم- لزيارة تربته- صلى اللَّه عليه وآله وسلم- فإنها من أهم القربات وأنجح المساعي، وقد روى البزار والدارقطني بإسنادهما عن ابن عمر-رضى اللَّه عنهما- قال: قال رسول الله -صلى اللَّه عليه وآله وسلم: (من زار قبري وجبت له شفاعتي[1]). وقد أبى هؤلاء المتنطعون الإذعان للحق فحرفوا أقوال العلماء، فالإمام النووي في كتابه الأذكار يقول: "(فصل) زيارة قبر رسول الله -صلى اللَّه عليه وآله وسلم- وأذكارها: أعلم أنه ينبغي لكل من حج أن يتوجه إلى زيارة رسول الله -صلى اللَّه عليه وآله وسلم- سواء كان ذلك طريقه أو لم يكن فإن زيارته -صلى اللَّه عليه وآله وسلم- من أهم القربات وأربح المساعي وأفضل الطلبات..إلخ". هذه عبارة الإمام النووي وهذا لفظه، إلا أنهم في طبعات حديثة لكتاب الأذكار حرفوا العبارة فقالوا: (فصل) فى زيارة مسجد رسول الله -صلى اللَّه عليه وآله وسلم- : أعلم أنه يستحب من أراد زيارة مسجد رسول الله -صلى اللَّه عليه وآله وسلم- أن يكثر من الصلاة عليه..إلخ، بل الأكثر من ذلك! أنهم قاموا بحذف قصة العتبى التي ذكرها الإمام النووي في كتابه. ذلك أن العتبى قال: كنت جالسًا عند قبر النبي فجاء أعرابي فقال :"السلام عليك يا رسول الله، سمعت الله يقول: "وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا (64)" سورة النساء، وقد جئتك مستغفرًا لذنبي مستشفعًا بك إلى ربي ثم أنشأ يقول:
يا خير من دفنت بالقاع أعظمه فطاب من طيبهن القاع والأكم
نفسي الفداء لقـــــبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم"
ثم انصرف الأعرابي فغلبتني عيني فرأيت النبي -صلى اللَّه عليه وآله وسلم- في النوم فقال: (يا عتبى، الحق الأعرابى فبشره أن اللَّه قد غفر له). فهل من الأمانة أن نتصرف في مصنفات العلماء بما نرى من تعديل وننقل هذا على أنه من كلامهم؟ هذا والله بهتان عظيم.
وفي كتابه "الجوهر المنظم في زيارة القبر الشريف النبوي المكرم" يقول الشيخ الفقيه ابن حجر الهيثمي وهو من أكابر علماء الشافعية: "اعلم وفقني الله وإياك لطاعته، وفهم خصوصيات نبيه -صلى اللَّه عليه وآله وسلم- والمسارعة إلى مرضاته أن زيارته -صلى اللَّه عليه وآله وسلم- مشروعة مطلوبة بالكتاب والسنة وإجماع الأمة وبالقياس". ومن هنا نرى أن الزيارة كما يقول العلماء قربة إلى الله ومما لا يخفى أن السفر وسيلة للزيارة ويلزم من كون الزيارة قربة أن تكون الوسيلة إلى القربة قربة لأن الوسائل تأخذ حكم المقاصد.
وننتقل إلى نقل آخر عن الفقهاء، فهذا الشيخ الباجوري في حاشيته على شرح ابن القاسم لمتن أبي شجاع في كتاب أحكام الحج يذكر سنن الحج والعمرة فيقول: "وزيارة قبره -صلى اللَّه عليه وآله وسلم- ولو لغير حاج ومعتمر" ثم يذكر آداب الزيارة ثم يقول بعد ذكره السلام على صاحبيه أبى بكر وعمر -رضي اللَّه عنهما- ثم يرجع إلى موقفه الأول قبالة وجهه -صلى اللَّه عليه وآله وسلم- ويتوسل به إلى ربه ،وإذا أراد السفر ودع المسجد بركعتين وأتى القبر الشريف وأعاد ما تقدم من السلام وغيره". وفي "نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج" للعلامة شمس الدين الرملي الشهير بالشافعي الصغير قوله: "يسن زيارة قبر رسول الله -صلى اللَّه عليه وآله وسلم- لخبر مسلم "من زار قبري وجبت له شفاعتي[2]" ومفهومه أنها جائزة لغير زائره، و"خير من جائني زائرًا لم تنزعه حاجة إلا زيارتي كان حقًا على اللَّه أن أكون له شفيعًا أو شهيدًا يوم القيامة[3]" إلى أن قال -رضى اللَّه عنه- "ثم يأتي القبر الشريف فيستقبل رأسه ويستدبر القبلة. ويبعد نحو أربعة أذرع ويقف ناظرًا إلى أسفل ما يستقبله في مقام الهيبة والإجلال فارغ القلب من علائق الدنيا ويسلم عليه لخبر (ما من أحد يسلم عليّ إلا رد اللَّه عليّ روحي حتى أرد عليه السلام[4]) ".
والمقام لا يسعنا في نقل جميع ما ورد في فضل زيارته -صلى اللَّه عليه وآله وسلم- فأين أقوال هؤلاء العلماء من قلوب الذين يرون أن الزيارة إنما تنوى للمسجد النبوي الشريف على أن يكون السلام عليه تابعًا لهذه الزيارة. إن المسجد والمدينة لم يتشرفا إلا بحلوله ووجوده عليه الصلاة والسلام فهو متبوع وليس تابعًا، ومما يجدر ذكره هنا قول الإمام ابن حجر الهيثمي في تنبيهه في كتابه المذكور عاليه والمسمى "الجوهر المنظم" فقال: "إن قلت ما حكمة دفنه -صلى اللَّه عليه وسلم- بالمدينة المنورة، قلت: إن حكمة إفراده -صلى اللَّه عليه وسلم- عن مكة بمحل آخر بعيد عنها منها فهي إظهار عظيم فضله -صلى اللَّه عليه وسلم- وأنه متبوع لا تابع، إذ لو دفن بمكة لكان قصده يقع تابعًا لقصدها أو قصد الحج، فيكون غير متبوع، وذلك لا يليق بعلي كماله، فاقتضى ذلك أن يفرد -صلى اللَّه عليه وسلم- بمحل مخصوص بعيد عن مكة حتى يكون قصد زيارته مستقلًا ليس تابعًا لغيره" انتهى كلام ابن حجر.
وقد أجمع العلماء على فضل الزيارة، وإنما اختلفوا هل هي واجبة أم مندوبة كما نقل هذا الخلاف في الفقه على المذاهب الأربعة. ولم يشذ عن هذا إلا الشيخ ابن تيمية سامحه الله ومن تبعه في خروجه عن الإجماع. والسؤال هنا إن كان هذا هو إجماع علماء الخلف والسلف فما الذي يدفع البعض إلى اتباع رأى شاذ يخرج عن الإجماع، بل الأكثر من ذلك والأسوأ الترويج لهذا الرأي ونشره على أنه الحق المطلق الذي لا حق غيره دون الإشارة إلى رأي غيرهم من العلماء.
وأود أن أعيد ما بدأت به وهو أن الأمر ليس الغرض منه الانتصار لرأي أو فئة، أو الانتقاص من أحد من العلماء، ولكن الغاية والقصد هو رفع هذه الشبهة التي حولت قربة من أعظم القربات في أذهان بعض الناس إلى معصية ولبست عليهم دينهم. والنية في ذلك النصح والتعاون على البر والتقوى. فبدعوى الحفاظ على التوحيد وسد الذرائع قطعوا المودة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونهوا الناس عن زيارته، وكأنهم قد فهموا من التوحيد ما لم يفهمه هؤلاء الأعلام وغيرهم ممن حضوا ورغبوا في السفر لزيارة النبي صلى اللَّه عليه وعلي آله وسلم.
ويحضرني هنا واقعة تبين لنا ملمحًا من هذا الأمر، حيث دخل مروان بن الحكم إلى قبر النبي -صلى اللَّه عليه وآله وسلم- فوجد رجلًا يستند برأسه إلى القبر ولم ير وجهه، فقال مروان:"يا هذا ما هكذا يفعل بقبر رسول الله"، فرفع الرجل رأسه فإذا هو أبو أيوب الأنصاري صاحب رسول الله، فقال أبو أيوب:" والله ما أتيت اللبنة ولا البناء ولكني جئت إلى صاحب هذا القبر، ولقد سمعت رسول الله يقول :"لا تبكوا على الدين إذا وليه أهله ولكن ابكوا على الدين إذا وليه غير أهله[5]"".
نسأل الله أن يبصرنا بالحق وأن يكشف عن قلوبنا ظلمة الجهل ويرزقنا نور الفهم، وأن يجعلنا من أهل المودة والقرب لهذا الرسول الكريم -صلى اللَّه عليه وسلم- في الدنيا والآخرة.
[1] رواه الترمذي والبيهقي في "شعب الإيمان" (490/3) برقم 4159
[2] رواه الدارقطني(2695) والبيهقي في الشعب (3862) وغيرهما.
[3] رواه الطبراني (291/12) (13149)
[4] رواه أحمد، (527/2) (10827)، والبيهقي في السنن الكبرى (245/5)،وإسناده جيد.
[5] رواه أحمد في مسنده (422/5) والطبراني في المعجم الكبير (158/4).
شارك المحتوي