العلم الضروري وأهمية التصوف للفرد والمجتمع



ذكرت في مقال الأسبوع الماضي المحاور الثلاثة التي تندرج تحتها منظومة العلوم الإنسانية، وذكرت كيف أن العلماء المسلمين رصدوا مصادر المعرفة قبل غيرهم بقرون طويلة، وقد اعتمدوا الحس والعقل والخبر كمصادر للمعرفة. ذلك أنه مع اعتماد العقل مع الحس كمصدرين من مصادر المعرفة، ومع احترام الإسلام للعقل وإنزاله منزلته، إذ هو مناط التكليف وأحد شروطه، فلو ذهب العقل لسقط التكليف، إلا أن الاعتماد عليه وحده بحيث أن الإنسان لا يقبل إلا ما يقبله عقله، يستحيل معه معرفة مراد الحق سبحانه من خلقه، ولذا كان لابد من الخبر كمصدر من مصادر المعرفة، فبالخبر الصادق وهو الوحي عرفنا أوامر الله ونواهيه.

ونود اليوم أن نستفيض في الكلام الذي ذكرناه عن العلوم الثلاثة الضرورية لكل مسلم والتي سماها العلماء بعلوم المقاصد، أي أنها العلوم المطلوبة لذاتها حيث أنها تدل على الله بغير واسطة وهي علوم "التوحيد" و"الفقه " وعلم السلوك والمعروف بعلم "التصوف ".

أما سائر العلوم فهي بالنسبة لهذه العلوم كالآلات، أي هي علوم مُعِينَة على تعلم وتلقي علوم المقاصد، وذلك مثل علم أصول الفقه، علم الحديث، النحو، وغيرها. وقد ذكر الشيخ ابن رسلان في الزبد فروض العلم في المتن الشهير المسمى "الزبد": "والعلم أسمى سائر الأعمال   وهو دليل الخير والأفضال، ففرضه علم صفات الفرد مع علم ما يحتاجه المؤدي من فرض دين الله على الدوام كالطهر والصلاة والصيام والبيع للمحتاج للتبايع وسائر الأعمال في الصنائع، وعلم داء القلوب مفسد كالعجب والكبرياء وداء الحسد فأول العلوم المفروضة وأهمها وأعلاها هو: علم التوحيد، إذ عليه يدور صحيح الاعتقاد، وهو أول الواجبات إذ بدونه لا يصح عمل". فأول واجب على الإنسان أن يعتقد في الله عقيدة صحيحة إذ لو فسدت العقيدة لم ينفع العمل، فالله سبحانه وتعالى يقول: "إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا" [سورة: النساء - الآية: 116].

وعلم التوحيد منه ما هو فرض عين على كل مسلم وهو ما يصح به اعتقاده، فيعرف صفات الله الواجبة له سبحانه وما يستحيل في حقه وما يجوز، ومثل  ذلك في حق رسل الله عليهم جميعًا الصلاة والسلام مع تصديق النبي تصديقًا جازمًا في كل ما أخبر عنه من الأخبار قطعية الثبوت. أما العلم الثاني من علوم المقاصد فهو: "علم الفقه" هو علم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية، وهو الذي يبحث في أمور العبادات والمعاملات، وهو كذلك قسمان، فرض عين وهو ما يحتاجه المكلف من أمور عباداته ومعاملاته في اليوم والليلة، فكل ما وجب عمله وجب علمه. ولذا يجب على كل مسلم أن يتعلم ما يحتاجه من أحكام الطهارة والصلاة والصيام وكذلك ما يحتاجه من أمور المعاملات، فكل ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، أما سائر مسائل هذا العلم مما يندر الاحتياج إليه هي من فروض الكفايات مثل: مسائل المواريث والطلاق السلم، وغيرها من الفروع، فهي للمتخصصين والفقهاء أهل الفتوى، فيكفي العوام أن يرجعوا إليهم ليعرفوا حكمًا في هذه المسائل. أما العلم الثالث وهو: علم التزكية والسلوك المعروف عند أهل العلم بعلم "التصوف"، فهو الذي أطلق عليه الإمام الغزالي رحمه الله "علم طريق الآخرة" وعَدَّهُ حجة الإسلام وغيره من العلماء فرض عين على كل مسلم، كيف لا؟ وهو علم تطهير القلوب وتزكية النفوس، وكما ذكرت من قبل فإن هذا المصطلح، أي التصوف، لم يكن في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فهو من المصطلحات المستخدمة بعد عهد النبوة شأنه كشأن أسماء كثير من العلوم الشرعية كمصطلح الحديث، والجرح والتعديل، وغيرها من العلوم التي انفرد بها علماء المسلمين في خدمة الشريعة. ومن ثم فإن اعتراض بعض الناس على الاسم بحجة عدم وجوده على عهد النبوة إنما هو عن جهل أو عن تنطع، ذلك لأنه كما ذكرت فإن غيرها من العلوم كذلك قد اختير لها أسماء لم تكن موجودة على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كما أن العلماء قد اتفقوا على أنه لا مشاحة في الاصطلاح، فالعبرة بحقيقة الشيء وجوهره لا بمسماه، كما أن تراجم العلماء لمن له نصيب من الاطلاع عليها يجدها مليئة بالثناء على من سلك هذا الطريق، فيقال في ترجمة العالم عبارة "وكان من الصوفية" إشارة إلى زهده وورعه وإقباله على الله.

في الثناء على طريق الصوفية يقول الشيخ تاج الدين بن السبكي في كتابه جمع الجوامع: "إن طريق الجنيد وصحبة طريق مقوَّم"، وكان والده شيخ الإسلام تقي الدين السبكي يلازم مجلس الشيخ تاج الدين بن عطاء الله "صاحب الحكم " يسمع كلامه ووعظه، كما ذكر ذلك الإمام السيوطي في الفتاوى. والتصوف علم لابد منه لمن أراد السلوك إلى الله، كيف لا وهو الذي على العلم به المعول في تطهير آفات القلوب التي تبعد صاحبها عن الله، مثل الكبر والشح والعجب والرياء وحب الدنيا وغيرها من الأمراض التي لا ينجو منها الإنسان إلا بالعلم بها والمجاهدة للتخلص منها. كما أن بهذا العلم يتكمل الإنسان بعبادات القلب المفروضة مثل التوكل والرضا والشكر والتواضع..إلخ. 

والتصوف مسلك روحي يطلب صاحبه كمال التزكية للنفس للوصول إلى مرتبة الإحسان، ويعمل من خلاله على تنقية القلب وتطهيره حتى يأتي الله بقلب سليم. وقد تعددت التعريفات كما تعدد الوصف لمعاني هذا المسلك وذلك لاختلاف ذوق السالكين ومراتبهم، فكما أن المذاق الحسي لا يمكن وصفه وصفًا دقيقًا يعبر عن حقيقته، فكذلك المذاق الروحي، بل إن التعبير عنه أصعب، فكل يصف حسب حاله. بل إن بعضهم ضاقت الألفاظ بهم فعجزوا عن وصف أحوالهم فخرج كلامهم مُوهم بمعانٍ لم يقصدوها، فوقع لهم الاتهام ممن لا يفهم كلامهم، ومع كثرة تعريفات طريق التصوف إلا أن كلها تدور حول صدق التوجه إلى الله والإقبال عليه بالكلية، وتظهر حاجة الفرد والمجتمع إلى هذا المسلك وأهله، هذا المسلك الذي يربي النفس ويهذبها بمجرد النظر في أحوالنا، حيث نرى أننا في زمان قد أسكرتنا فيه الدنيا وزخرفها؛ فجعلتنا نتخبط فيها ونلهث وراء سراب السلطة والمال والشهوات، فما نبرح أن نصل إلى آجالنا فلا نجد من هذا السراب شيئًا. 

ونرى آخرين رفعوا راية الدين وتكلموا باسمه وتصدروا المجالس وقلوبهم قد ملأها حب الدنيا وتصدُّر المجالس، فكانت الدعوة سبيلهم لجمع ثروات والوصول إلى الشهرة وهؤلاء هم علماء الدنيا. وغير ذلك من الطوائف والأمثلة التي كلما رأيناها وجدنا أننا في حاجة إلى توجيه النفس وسلوك الطريق المؤدي إلى تزكيتها بمداومة الذكر والإقبال على الله بصدق في القول والعمل والحال. نحتاج أن نتمثل أحوال أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في خشوعهم وصدقهم وزهدهم وتقشفهم وإعراضهم عن الدنيا وإقبالهم على الآخرة. هؤلاء الأصحاب الذين فهموا أن تسلط الأمم علينا وتداعيها على أمتنا لا يكون نتيجة لقوتهم، ولكن نتيجة خلل وضعف يصيب أمتنا.

فلما أخبرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن الأمم ستتكالب علينا للفتك بنا، ما سألوا عن أحوال هذه الأمم ولكن قالوا "أَوَ من قلةٍ نحن يومئذ يا رسول الله" فقال عليه الصلاة والسلام "بل أنتم يومئذ كثير، ولكن غثاء كغثاء السيل[1]" ثم يبين فهم سبب هذا وشخّص لهم المرض المُسمى بالوهن الذي أصاب القلوب، فقال: "حب الدنيا وكراهية الموت" فاختصر لنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم سبب هواننا على الأعداء في حب الدنيا وحذرنا منه  في مواضع عديدة. و رُوِيَ أن سبب تأليف الإمام الغزالي لكتابه الشهير "إحياء علوم الدين" أنه في ليلة وهو بالشام دخل رجل المسجد قادمًا من بغداد، وقد فر منها بعد أن دخلها التتار، وأخذ يروي للناس ما جرى بها من انتهاك لحرمات المسلمين ومن تقتيل وتمثيل، فهاج الناس وماجوا، وظن الغزالي أن الناس ستصبح تستعد للجهاد، إلا أنه لما أصبح وجد الناس يتوجهون لحياتهم العادية كأنهم لم يسمعوا شيئًا بالأمس فقال: "فعلمت أن القلوب قد ماتت" فعكف عشر سنوات يكتب في هذا المؤلف في إحياء القلوب من موتها. فما أحوجنا الآن إلى إحياء قلوبنا وإلى السير في الطريق الذي نُحْيِي به هذه القلوب ونخلصها من آفاتها. ولنا مع التصوف وقفات لنحاول بيان بعض الأمور المتعلق بها المسلك الروحي القويم.



[1] رواه (أخرجه) أحمد (278/5) ورقمه (22450)، وقال ابن باز في مجموع الفتاوي (106/5) إسناده حسن


شارك المحتوي