علم التصوف ومبادئه - الجزء الثاني



ذكرت في الجزء الأول من هذا الموضوع قناعتي بحاجة المسلمين إلى علم التصوف، إذ هو يتعلق بروح الدين وجوهره، وتزداد هذه القناعة كلما رأيت هذا التدين الشكلي الذي أغرقنا فيه فكر ديني سطحي لا يتناسب مع قيمة هذا الدين الذي من المفترض أن يُصلح لنا الزمان والمكان. وقد تكلمنا عن حد هذا العلم أي تعريفه وكذلك عن موضوعه وهو معرفة الله.

وهنا نحاول في اختصار أرجو ألا يكون مُخِلًّا، أن نبين بقية مبادئ هذا العلم الذي انصرف عنه أكثر الناس مع كونه علمًا ضروريًّا من علوم المقاصد التي ذكرها العلماء، وهي ثلاثة علوم: علم التوحيد، وعلم الفقه، وعلم التزكية أي التصوف. 

فهذه العلوم هي علوم المقاصد وغيرها من العلوم يعد كالآلات بالنسبة لها. والمبدأ الثالث من مبادئ العلوم هو "الثمرة" أو الفائدة منه، إذ لابد أن يكون هناك ثمرة من العلم الذى يقبل عليه الإنسان، وإلا كان جهده فيه هباءً. وثمرة علم التصوف كما يقول الشيخ ابن عجيبة في شرحه على حكم ابن عطاء الله المُسمى (إيقاظ الهمم) هي: "تهذيب القلوب ومعرفة علام الغيوب". ويستطرد الشيخ رحمه الله قائلًا: "وأعلم أن هذا العلم الذي ذكرنا ليس هو اللقلقة باللسان، وإنما هو ذوق و وجدان، ولا يؤخذ من الأوراق، وإنما يؤخذ من أهل الأذواق، وليس يُنال بالقيل والقال، وإنما يؤخذ من خدمة الرجال، وصحبة أهل الكمال، والله ما أفلح من أفلح إلا بصحبة من أفلح". وهنا بعد أن بيَّن لنا الشيخ الثمرة المرجوة من وراء هذا العلم وسلوك هذا الطريق، بيّن أن المسألة ليست كلمات تقال، ولا مصطلحات تستخدم، ولا أحوال تدعى، ولكنها حقائق تشرق على قلب السالك إلى الله ليعرف بها معنى العبودية الحقة لله رب العالمين، وتظهر عليها صبغة لا تنفك عنه، وهي صبغة يصبغ الله بها عباده "صِبْغَةَ اللَّهِ ۖ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً ۖ وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ" [سورة: البقرة - الآية: 138]. ولا يخفى علينا هنا أن نبين أن هذه الصبغة لا تكون لونًا خارجيًا إذ اللون الخارجي يسمى طلاءً، وكذلك التدين الشكلي يكون مثله مثل الطلاء الذي قد يزول عن المُطلى؛ أما الصبغة فهي ما يخالط المصبوغ فلا ينفك عنه، ولذا فإن أهل العبودية الحقة لله سبحانه تخالط معاني عبوديتهم قلوبهم وأرواحهم، فتكون بواطنهم عامرة بنور المعرفة لله رب العالمين، فيخرج هذا النور كل صفة دنية وأخلاق غير مرضية. 

ثم بين الشيخ أن بلوغ هذه المراتب لا يكون بالكلام ولكن يكون بصحبة من سبق على هذا الطريق من أهل الصدق والعرفان إذ يقول رب العالمين: "بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ۚ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ"[سورة: العنكبوت - الآية: 49]. فجعل الله محلَّ حقائق هذه الأيات صدور العارفين والصالحين، فمن طلبها من الأوراق فقد طلب الرسوم، أما من أراد الحقائق فعليه بصحبة الرجال، ولفظ الرجال إذا ذُكِر عند أهل الطريق لا يقصد به كل من كان ذكرًا، وإنما قصد به المعاني القرآنية مثال "مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا"[سورة: الأحزاب - الآية: 23]،  ومثال قوله: "فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ" [سورة: النور - الآية: 36].

وأما عن فضل هذا العلم، فقد ذكرنا في المقال السابق أن موضوعه هو الذات العلية، وهو أفضل الموضوعات على الإطلاق، ولذا فإن العلم الذي يدل على معرفته سبحانه وتعالى هو الأفضل بلا شك. ولذا قال الجنيد رحمه الله: "لو نعلم أن تحت أديم السماء أشرف من هذا العلم الذي نتكلم فيه مع أصحابنا لسعينا إليه".

وأما نسبة هذا العلم بالنسبة لسائر العلوم فهو: "كُلِّيٌّ لها وشرط فيها" إذ أن هذا العلم كما ذكرنا مبني على حسن التوجه إلى الله تعالى، ومعلوم أنه لا خير في علم ولا عمل بغير إخلاص، ولذا قال الشيخ زروق رحمه الله: "نسبة التصوف من الدين نسبة الروح من الجسد". ولما كنا نرى أن الجسد بغير روح محله تحت التراب إذ لا حاجة له، فإن صورة الدين بغير روح، أي بغير إخلاص، لا طائل منها في الدنيا ولا في الآخرة.

وأما اسمه: فـ "علم التصوف" كما اتفق عليه أهل الطريق والعلماء على مدار القرون.

وأما حكمه: ففرض عين كما  قال الإمام الغزالي رحمه الله، إذ ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. ومعلوم أن تزكية النفس من الواجبات إذ لا يكون الفلاح إلا له فقد قال الله: "وَنَفْسٍ وَمَا سَوّاهَا(7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا(8) قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكّاهَا(9)وَقَدْ خَابَ مَن دَسّاهَا(10)" [سورة:الشمس - الآية: 7-10]. فتطهير النفس من آفاتها وخروجها عن عيوبها أمر واجب على كل مسلم، فالكبر والحسد والرياء والعجب وغيرها من أمراض القلوب، كلها من المذمومات الشرعية التي نرى آثارها في فساد مجتمعاتنا الإنسانية، وهي من المنهيات التي أُمرنا أن نتخلص منها، ولذا فإن العلم الذي يؤدي بنا إلى تطهير النفس منها فهو واجب كما هو معلوم لكل ذي عقل ولا يجادل في ذلك إلا جاهل أو جاحد. كلما رأينا الأهواء تتلاعب بنا وبالناس حولنا، ورأينا الفساد الذي يتسبب فيه تسلط الهوى على الناس، علمنا حاجتنا إلى هذا العلم المُربِّي للنفس والمُزكِّى لها.


شارك المحتوي