علم التصوف ومبادئه - الجزء الأول



كلما أمسكت بقلمي أجدني مدفوعًا للكتابة عن التصوف. وكم من مرة قاومت ذلك الشعور غير أنه يعاودني في كل مرة، ذلك لأن قناعتي الشخصية أننا بحاجة ماسة إليه في الدنيا، وبلا شك للنجاة في الآخرة.

ومما يزيد من رغبتي التي لا تقاوم في الكتابة عن هذا العلم، انصراف أكثر الناس عن حقيقته، فالمنتسبون إليه اكتفَوْا -أكثرهم- منه بالرسوم والهيئات والتناقل لكلام أهل الطريق، وقصرت هممهم عن خوض بحار حقائق هذه المعاني، وعن سلوك الطريق الموصل لتلك المقامات والحقائق. بل في كثير من الأحوال انحرفوا بالطريق عن مساره؛ فأساؤوا إلى المنهج إذ هناك من يترصد للتصوف وأهله، فأعطاهم الجاهلون من أهل الطريق والمنحرفون عن مساره الذريعة لمواصلة هجومهم وبث سمومهم في الحديث عن الصوفية.

وأكثر الناس شغلتهم دنياهم وتسلطت عليهم بزينتها فاستغرقوا فيها وعاشوا من أجلها وزين لهم الشيطان سوء عملهم فمنهم من غفل عن الآخرة بالكلية، ومنهم من اكتفى من الدين بأعمال الظاهر والعبادات البدنية دون أن يلتفت إلى هذا القلب الذي هو موضع نظر الحق، وغفل عن تحقيق معنى قول الحق: "يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) " [ سورة: الشعراء]. ولما كان (الحكم على الشيء فرع عن تصوره)، فقد صار الحكم على التصوف الآن في عقول كثير من الناس مشوهًا؛ وذلك لتشوه التصور لهذا العلم في عقولهم، بل لم يعلموا من الأصل هذا علم بل "ظنوه" وظنوا أهله فرقًا من (الدراويش) الجُهَّال، وظن غيرهم أن التصوف هو زيارة قبور الصالحين والتوسل بهم في حين أن هذه المسائل من مسائل الفقه ليست من مسائل التصوف أصلًا.

ولذا؛ فقد أردت أن أذكر مبادئ هذا العلم كما أورده أهله في كتبهم، لعل من يقرأ هذا الكلام يتعب نفسه في محاولة البحث عن الحقيقة في أمر من أعظم الأمور بل هو أعظمها على الإطلاق وهو أمر الآخرة.

ومبادئ كل فن قد جمعت في الأبيات التالية:

"إن مبادئ كل فن عشرة  *** الحد والموضوع ثم الثمرة

فضله ونسبته ثم الواضع ***  فالاسم الاستمداد حكم الشارع

مسائل والبعض بالبعض اكتفى *** ومن درى الجميع حاز الشرفا"

وسوف نذكر بعض هذه المبادئ محاولين التعرف على ماهية هذا العلم، علمًا بأننا نعلم أن هذا العلم لا تدرك ثمرته بالنقل أو الحفظ والمذاكرة، بل هو علم تدرك ثماره بالسير إلى الله والمجاهدة، "وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ" [سورة: العنكبوت - الآية: 69].

أما عن حد هذا العلم فإن "حد التصوف" كما يقول الشيخ زروق: "وقد حُدَّ التصوف ورُسم وفُـسِّـرَ بوجوه تبلغ نحو ألفين. مرجعها كله لصدق التوجه إلى الله تعالى، وإنّما هي وجوه فيه، والله أعلم." وهذا يؤيد ما ذكرناه من أن هذا الأمر يتوقف على ذوق السالك أثناء رحلته الروحية وعلى المرتبة التي وصلها في وصف التصوف وهو قائم في هذه المرتبة. غير أنَا نذكر بعض تعريفاته، فقد قال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري رحمه الله: "التصوف علم تعرف به أحوال تزكية النفوس، وتصفية الأخلاق وتعمير الظاهر والباطن لنيل السعادة الأبدية".

وقال ابن عجيبة رحمه الله: "التصوف: هو علم يُعرف به كيفية السلوك إلى حضرة ملك الملوك، وتصفية البواطن من الرذائل، وتحليتها بأنواع الفضائل، وأوله علم وأوسطه عمل وآخره موهبة". ونفهم من ذلك أن الأصل في هذا المسلك هو العمل على تصفية القلب من الكدر والوصول إلى صفاء المعاملة من الله بالعلم والعمل والإخلاص وقطع المسافات إليه سبحانه، قيامًا بالشريعة وسلوكًا للطريقة ووصولًا للحقيقة. 

فالشريعة أن تعبده، والطريقة أن تقصده، والحقيقة أن تعرفه. ولا يمنعنا من ذلك جهل جاهل أو إنكار منكر ولله در صاحب "كشف الظنون" العلامة حاجي خليفة إذ يقول: 

"علم التصوف علم ليس يعرفه *** إلا أخو فطنة بالحق معروفُ 

وليس يعرفه من ليس يشهده *** وكيف يشهد ضوء الشمس مكفوفُ".

أما موضوعه -أي موضوع علم التصوف- فهو الذات العلية ، بمعنى طلب معرفة الحق فهو القائل سبحانه: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" [سورة: الذاريات - الآية: 56]، قال ابن عباس: "أي ليعرفون". ومعرفة الحق على نوعين، إما بالدليل والبرهان كما في علم التوحيد، وذلك بإعمال العقل واستخدام النقل إذ الصنعة تدل على الصانع، وهذه المعرفة تكون للطالبين. أما النوع الثاني من المعرفة فهي بالشهود وتجلِّي الحقائق في القلوب، وهو مقام الإحسان الذي ذكره النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- لسيدنا جبريل فقال: "أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك"[1]، وهذه المعرفة للواصلين ولذا يقال لهم العارفين، وهؤلاء هم الذين وجدوا الحلاوة في إيمانهم ورفعوا إلى مراتب العز بالقرب من ربهم، "أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ" [سورة: يونس - الآية: 62]. وللحديث بقية.

-----------------------------------------------------------------------------
[1] أخرجه البخاري (50/9) برقم1187.

شارك المحتوي